بدأت موريتانيا تخوض معركة الوجود هذه في ظروف لا تشجع على قيام دولة قابلة للحياة.
بدأ هذا الكيان ينمو في محيط يفتقر إلى أبسط مقومات الدولة، فالعاصمة غداة الاستقلال كانت بها مدرسة ابتدائية واحدة وثانوية واحدة من ثلاثة فصول وعشرات المنازل يأوي أحدها مكتب الوزير الأول، بينما كانت اجتماعات البرلمان تنعقد في عريش ضخم أصبح فيما بعد مبنى للمحفوظات الوطنية وهو الذي أعلن فيه الاستقلال.
كانت الكهرباء يومئذ موزعة على 250 زبونا في لكصر والعاصمة، في حين لا توجد مجاري للماء أو للصرف الصحي.
كان يجري تزويد المائتي زبون بالماء عن طريق الصهاريج، ولم تكن لهذه العاصمة الناشئة أية وسيلة للتموين بالمواد الضرورية كما لم يكن بإمكان أي باخرة أن ترسو على الشواطئ القريبة منها ولا يوجد أي طريق معبد يربطها بمحيطها.
كان لابد للمسافر أن يقضي اثنتي عشر ساعة في السفر إليها برا من "سينلوي"، ولم يكن مطارها حينئذ بأحسن حال من مرافقها الأخرى إذ لم يكن يصلح إلا لاستقبال طائرات خفيفة مثل كونكير ود س 3.
ولا يمكن الحديث عن انواكشوط الناشئة دون التطرق إلى رجل ارتبط اسمه بها منذ الخمسينات حيث كان "محمد بن خيار" رحمه الله رئيسا عرفيا لبلدتها. لم يذهب هذا الرجل إلى المدرسة العصرية لكنه كان يتمتع بذكاء فطري، وكان خفيف الظل مولعا بالهم العام يحب الضعفاء ويسعى في حل مشاكلهم وكانوا يردون له ذلك الحب مضاعفا.
أتذكر أنه في هذه الفترة تم استجلاب عمالة أجنبية متخصصة ماهرة من الدول المجاورة ساعدت في نقل المهارات للموريتانيين بفعل الاحتكاك والممارسة في ميادين كنا في أمس الحاجة إليها كالسياقة والمكانيكا والكهرباء والنجارة والبناء..
لم يكن للبلاد من المدن غير أطار، وروصو، وكيهيدي، وانواذيبو.. كانت مدينة أطار من أوائل المدن التي شهدت قيام مدارس ومراكز صحية إضافة إلى ما عرفته من نشاط سياسي أدى إلى اقتراحها عاصمة للبلاد وقد أصبحت بموجب ذلك مقرا لبعض الأحزاب السياسية.
لم يكن في البلاد قبل 1957م أي وحدة صحية يمكن الاعتماد عليها في المعالجة أو تقديم إسعافات غم وجود أطباء في بعض المدن الكبيرة وظلت البلاد تفتقر إلى خدمات الصيادلة وكان على المرضى بمقتضى هذه الوضعية أن يبحثوا عن مراكز للاستشفاء والحصول على الأدوية في السنغال.
في الميدان الثقافي لم يكن في البلاد ما يعتمد عليه للحفاظ على الوجه الحضاري والثقافي إلا ما كان من محاظر تصارع الزمن وتبحث عن وسائل الاستمرار لا يشد أزرها إلا ما يقوم به معهد أبي تمليت الإسلامي الذي كان قد أنشأه عبد الله ولد الشيخ سيدي سنة 1952.
كان "الشيخ سيدي الكبير" قد أسس نظاما سياسيا واجتماعيا محكما جيد التنظيم أورثه أبناءه من بعده إلى أن وصل إلى عبد الله الذي كان أمانا للخائفين وزادا للمحتاجين ونبراسا للتائهين.
كان مرجعا في كل أمور الدين والدنيا ودارا للحل والعقد يتقاطر عليه الشيوخ والأمراء والعامة لإصلاح ذات البين والتحكيم في النزاعات وضمان المصالحات.
ظل العهد يستقبل بالإضافة إلى الموريتانيين مجموعات من الطلاب الأجانب الوافدين من السنغال، ومالي، وغينيا، ونجيريا.
وإن مما عزز الحركة الثقافية غداة الاستقلال تلك البعثات التي تم إرسالها إلى بعض الدول العربية مثل تونس ومصر من أجل التكوين فقد جعلت حكومة الاستقلال على رأس أولوياتها خيار الوحدة الثقافية إذ أن إنماء الشعور الوطني يستدعي أن يشعر الشعب بوحدته الثقافية.
من أجل الإسراع بحل المشكلات الأكثر إلحاحا والتي كانت تثير الإحباط في نفوس الكثيرين كان لابد من عناية أكثر بمجالي الإسكان والتعمير بغية التعجيل ببناء المرافق الأساسية للعاصمة، وفي هذا الإطار أعلنت السلطة الجديدة عن حرية التملك على مدى ستة أشهر لتشجيع المواطنين على حيازة الأرض وإعمارها، ومن جانبها ساهمت فرنسا بمبالغ مالية لدعم مشروع بناء العاصمة.
لم يمض عام على الاستقلال حتى تحولت انواكشوط إلى ورشات كبيرة ووصلت المباني التي تم تشييدها فعلا إلى سبعمائة بناية حديثة كافية لاستيعاب الدوائر والمصالح الحكومية وكان من ضمنها دور لسكن الموظفين والسلك الدبلوماسي، وجرى غرس ما يربو على عشرين ألف شجرة لتوفير الظل وامتصاص الغبار والتخفيف من شحوب الطبيعة، وأصبحت المدينة الناشئة قادرة على استيعاب عشرة آلاف شخص وارتفع عدد المدارس فيها وتم توسيع المطار، ولم تمض سنتان حتى تم وضع مشروع ربطها بطرق برية مع روصو وكيهيدي ولعيون والنعمة...
وموازاة مع هذه التطورات التي شهدتها انواكشوط غداة حصول البلاد على استقلالها كانت مدن أخرى تشهد تحولات مشابهة فكانت "انواذيبو" مثلا تعرف حركة نمو مضطرد دشنها ربطها بمدينة "ازويرات" عن طريق سكة حديدية واكتشاف منابع المياه في بلدة "بلنوار"، وتوسيع مطارها ومينائها.
وخلال عام واحد من الاستقلال أصبح في البلاد أكثر من ثلاثمائة مدرسة ابتدائية تدرس اللغتين العربية والفرنسية وتأوي أكثر من عشرة آلاف تلميذ، وخمسة عشر مدرسة ثانوية يدرس فيها زهاء ألف تلميذ.
وعلى مستوى التطورات السياسية التي واكبت إعلان الاستقلال تم إجراء انتخابات رئاسية كان المختار بن داداه المرشح الوحيد فيها مما منحه الفوز كأول رئيس للجمهورية الإسلامية الموريتانية لمدة خمس سنوات، وقد جاءت نتائج هذه الانتخابات لتوضح ما أصبح يتمتع به هذا الرجل من احترام وتقدير بين كل فئات الشعب وأصحاب الرأي، وقد تعززت هذه المصداقية أكثر عندما استطاع أن يجمع أهم القوى الحية في مؤتمر وطني شاركت فيه ثلاثة أحزاب هي: حزب التجمع، حزب النهضة، حزب الأمة، وتم دمج هذه الأحزاب في حزب واحد هو: "حزب الشعب الموريتاني" ثم تم إشراك بعض عناصر هذه الأحزاب في ممارسة السلطة.