الحلقة الثالثة عشر من تاريخ الأنظمة في موريتانيا: (القبضة الحديدية) | صحيفة السفير

الحلقة الثالثة عشر من تاريخ الأنظمة في موريتانيا: (القبضة الحديدية)

جمعة, 02/09/2016 - 17:27

سعى المختار ولد داداه منذ البداية إلى تحجيم دور الأحزاب وذلك من وجهة نظره حفاظا على الوحدة الوطنية ذلك أن واقع التعددية قد يفضي إلى التفكك في ظل القبلية والجهوية.

كان يرى أن هذه الوحدة تقتضيها مواجهة الأطماع الخارجية التي تستهدف أمن وسيادة البلاد، وهكذا تمكن في عام 1961 من دمج بعض الأحزاب في حزب مهيمن واحد واستطاع بفضل هذه العملية أن ينهي التعددية السياسية التي نص عليها دستور 1959 وتم تحويل البرلمان إلى ختم في يد الحكومة تصدر به ما تشاء وكانت أول حكومة تشكلت بعد الاستقلال على النحو التالي:

المختار ولد داداه، رئيسا للدولة؛
أمادو داديي صمبا اديوم: وزيرا للأشغال العامة والنقل والمواصلات؛
أحمد سالم ولد هيبه: وزيرا للاقتصاد الريفي؛
موريس كومباني: وزيرا للمالية؛
با مامادو صمبولي: وزيرا للتخطيط والعقارات والإسكان والسياحة؛
سيد محمد الديين: وزيرا للوظيفة العمومية؛
شيخنا ولد محمد الأغظف: وزيرا للعدل والتشريع؛

كان لشيخنا ولد محمد الأغظف مكانة اجتماعية متميزة في منطقة الحوضين.

عرفت سياسيا مخضرما جريئا في آرائه ومواقفه التي يبر عنها دائما وإن كان ذلك التعبير يتم بدبلوماسية وذكاء.

تقلد مناصب سيادية في حكومة ما بعد الاستقلال كما أسلفنا شملت الخارجية والعدل.

كان أيضا أول رئيس نقابة التجار الموريتانيين عند إنشائها سنة 1974 كما كان مديرا لشركة سوسيم التي شاركت بفعالية في النهضة العمرانية التي شهدتها البلاد في بداية السبعينات وخاصة طريق انواكشوط – أكجوجت.

يذكره الرأي العام كأبرز أقطاب الجناح المدني لحركة العاشر يوليو 1978.

ولقد عمل المختار على تعزيز ذلك التوجه عندما ألغيت جميع الامتيازات التي كان يحظى بها شيوخ القبائل وأمراؤها التقليديون في مؤتمر الحزب الذي انعقد عام 1963 بانواكشوط، وما ذلك إلا لأنه كان يعتقد باستحالة العمل به في واقع لا يستجيب لمتطلبات النظام الديمقراطي ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا بل لابد من صهر الجهود في بوتقة واحدة باعتبار "أن الحزب الواحد هو قاعدة بناء الوحدة الوطنية".

وفي مرحلة من إحكام القبضة السياسية هذه جاء مؤتمر كيهيدي عام 1964 مقرا من ولاية الحزب على جميع مؤسسات الدولة وأصبح المكتب السياسي الجهة الوحيدة التي تمتلك حق الترشيح لكل المناصب الانتخابية. وتعزيزا لهذا النهج جرت مراجعة للدستور سنة 1965 تمخضت عن ظهور المادة 9 التي تعتبر أن "الإدارة الشعبية يترجمها حزب الدولة المنظم ديمقراطيا".

وجاءت المادة 37 من نظام الحزب لترسخ هيمنة الجهاز الحزبي على كافة مرافق الدولة حيث نصت على أن "شرط تقلد أية مهمة في أجهزة الدولة هو الالتزام اللامشروط إزاء الحزب".

بهذا المنهج الصريح استطاع حزب الشعب فرض سيطرته على كافة التنظيمات الوطنية وتم تدجين آخر القلاع بعد أن تمكن من احتواء عناصر النقابة الوطنية سنة 1966م ليتحول هذا التنظيم إلى هيئة من هيئات الحزب كاتحاد الشباب واتحاد النساء..

وبتمكن هذا الحزب من استيعاب كل القوى النقابية والسياسية ولاسيما بعض القيادات من حزب النهضة فإنه أصبح بلا منافس وأصبح بإمكان المختار انتهاج سياسية أكثر استقلالية كما أصبح رئيسا للدولة والحكومة والجيش والحزب والقضاء.

ولعل ما يفسر طبيعة هذا التوجه السياسي لدى المختار بن داداه مدى تأثره بالتجربتين الجزائرية والغينية حيث بدأت في تلك الفترة يتقرب من هاتين الدولتين.

لقد ظلت الهوية الثقافية الهاجس الذي ما فتئ يؤرق النظام لما تثيره بين الحين والآخر من صعوبات تعود في الأصل إلى تباين الخلفيات الثقافية للنخب السياسية مما أسفر في بعض المراحل التاريخية عن صدامات ترتبت عليها آثار مؤلمة مست الوحدة الوطنية مما استدعى التعجيل بوضع خطة إصلاحية تقوم على مراعاة مصالح كل الفئات.

كان القوميون العرب يطرحون فكرة التعريب في كافة المجالات وخاصة الثقافة والإدارة والتعليم وقد استطاعوا أن يحققوا نصرا كبيرا عندما أصدر حزب الشعب الموريتاني في مؤتمره المنعقد عام 1966م قراره الذي يكرس إلزامية اللغة العربية في التعليم النظام في إطار إصلاح النظام التربوي، ونجم عن هذا التطور بروز أزمة داخلية عملت على تفجيرها مجموعات من ذوي المشارب الثقافية الفرنسية نشروا وثيقة شديدة اللجهة باسم مجموعة 19 ورأوا القرار نوعا من ممارسة الهيمنة الثقافية والعنصرية مما سيقود في نظرم إلى الاستلاب الثقافي للأقليات الزنجية.

وقد أفضت هذه الأزمة فيما بعد إلى مواجهات عرقية، الشيء الذي جعل النظام يتدخل لاحتواء مضاعفاتها.

لم يحل هذا المنعطف دون استمرار تيار التعريب وتأكيد الهوية العربية للبلد وتم اعتماد فكرة الاستقلال الثقافي وترسيخ الأصالة كما جرى العمل على توسيع دائرة العلاقات مع البلدان العربية في الشرق وتزامن هذا مع النشاطات العلنية الأولى للتيارات "العروبية" مثل "البعثيين" و"الناصريين".

كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على تعزيز مكانة موريتانيا بين الدول العربية مما جعلها تستفيد من التمويل والمساعدات الفنية العربية للكثير من المنشآت والمرافق الحيوية.

ومعروف أن النظام كان منذ بداية الاستقلال يدور في فلك القوى الاستعمارية التي كانت تربطه بها مواثيق واتفاقيات تمنحه بموجبها فرنسا بعض المساعدات المشروطة، وبمقتضى ذلك ظل نشطا في المنظمات الفرانكفونية إلا أنه لم يلبث أن وضع سياسية يتم بموجبها تحديد العلاقات الخارجية وفق مصالح البلد، وقد ظهر هذا التطور بصورة واضحة في محاولات الانضمام إلى بعض النوادي الإفريقية التحررية والنشاط المتزايد في إطار حركة عدم الانحياز وإعطاء عناية خاصة للعلاقات مع الصين الشعبية. وبهذه التوجهات الجديدة بدا أن النظام أخذ يدير ظهره لعلاقاته التقليدية الحميمة مع فرنسا والمنظمات الإقليمية السائرة في فلكها.

ومنذ ذلك التاريخ توطدت علاقة بلادنا بمحيطها العربي مما كان له انعكاسات إيجابية على الوضع الداخلي، وتجسيدا لهذا الاتجاه قطعت موريتانيا علاقاتها مع بريطانيا وأمريكا سنة 1967م احتجاجا على دعمها لإسرائيل وتم افتتاح مكتب لحركة فتح الفلسطينية سنة 1969م.

في نفس السنة بدأ التقارب مع المغرب ذلك إثر لقاء جمع المختار ولد داداه والملك الحسن الثاني على هامش المؤتمر الإسلامي المنعقد بالرباط وتم بموجب ذلك اعتراف المغرب بموريتانيا وقد مهدت هذه التطورات لحصول موريتانيا على عضوية كاملة في الجامعة العربية فيما بعد، ونجحت دبلوماسيتها في تسوية بعض النزاعات كما استطاعت أن تحشد الدعم بين الدول الإفريقية للمقاطعة السياسية والتجارية لإسرائيل.

لم يكن كل ذلك ليتحقق لولا بعض التطورات التي جعلت القاعدة العريضة من أبناء هذا الشعب تعي خطورة المرحلة خاصة في ظل استفحال تلك التحديات التي كان الجفاف في طليعتها حيث عمل على تدمير المصادر الطبيعية وأدى إلى هجرة السكان من الأرياف إلى المدن وقوض القاعدة الاقتصادية في عموم البلاد.

ساعدت في ذلك عوامل أخرى كانتشار موجات الغضب في أوساط عمال مناجم الحديد في ازويرات التي أدت إلى أحداث 29 مايو 1968 والإضرابات المتواصلة للمؤسسات التعليمية، أضف إلى ذلك أصداء نكسة 1967 وتوسع المدر اليساري في أوروبا والعالم الثالث.

قامت حركات سياسية أهمها الحركة الوطنية الديمقراطية، التي ظهرت على الساحة السياسية سنة 1968 كتيار استقطب أصحاب الميول المأوى من الشباب واستطاعت أن تسيطر على اتحاد الطلاب والمتدربين الموريتانيين بعد أن برز كقوة فعالة وقد كانت هذه الحركة صدى محليا لأحداث تجري في مناطق أخرى من العالم كحركة "كيفيرا" في أمريكا اللاتينية وحرب فيتنام وأحداث مايو 1968 في فرنسا.

ظهرت أيضا حركة "الكادحين" كحزب نشط به بعض المجموعات الشبابية ذات الميول اليساري وكان "الكادحون" يصدرون نشرة سرية باسم "صيحة المظلوم" تنتقد النظام وارتباطه الوثيق بالدول الاستعمارية.

كان بعض نقدهم منظوم شعبي وفصيح تصدى لهم "الملك همام" بأسلوبه الحصيف الظريف وكان إنتاج الطرفين على كل الألسنة في تلك الفترة يقول الشاعر:

الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم

لا يستوون كما لا يستوي الشجر

هذا له ثمر حلو مذاقته

وذاك ليس له طعم ولا ثمر

كان همام سريع البديهة بليغ المعاني، كان شخصية مركزية في تلك الفترة تجتمع في بيته المفتوح صفوة المجتمع.

كان رحمه الله يكثر من مجالسة أهل الخير والصالحين ويحسن إليهم كثيرا وكان يحب أسرة أهل الشيخ سيديا وخاصة عبد الله وسليمان يقول الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

فتح الله عليه بابا من الرزق فأحسن التصرف فيه فأحسن على أخواله وكافة المحتاجين كان همام أيضا محبا للنبي صلى الله عليه وسلم يمدحه بعاطفة صادقة جدا.