من المعروف إن العدو الصهيوني يجيد اختيار مواعيد حروبه ومجازره ليكرس منطق الهزيمة في وعي امة لا تستفيق من نكبة إلا على وقع هزيمة، ولا تخرج من مجزرة إلا لتقع في مجزرة أخرى، ولعل الموعد الأشهر هو أوائل حزيران حيث احتل جيش العدو في أيام سيناء والجولان والضفة الغربية عام 1967، ليعود فيختار الرابع من حزيران 1982 موعداً لحربه على لبنان وصولاً إلى احتلال عاصمته في 13 أيلول بعد حصار أسطوري دام 88 يوماً، وبعد ضربات دولية سمحت بتوغل الاحتلال في العاصمة…
ومثلما كان 13 أيلول/ سبتمبر 1982 موعداً لاحتلال بيروت وارتكاب المجازر في مخيماتها، جاء 13 أيلول/سبتمبر 1993 ليدخل الثورة الفلسطينية في نفق أوسلو، الذي بالإضافة إلى كل الاعتراضات الوطنية والقومية عليه، كان مشكلة إضافية تضاف للصراع العربي – الصهيوني ما زلنا ندفع ثمنها حتى الآن….
ومثلما كان الأسبوع الثاني من أيلول/سبتمبر حافلاً بأحداث لبنانية وفلسطينية وعالمية (11 أيلول/سبتمبر2001)، جاء الموعد نفسه هذا العام ليحمل حدثاً سورياً بالغ الأهمية وهو الإعلان الإسرائيلي الرسمي عن الانخراط في الحرب السورية عبر السعي لنصرة مجموعات مسلحة متطرفة بما يؤكد الحلف القديم – الجديد بين إرهابين، إرهاب صهيوني وإرهاب جماعات الغلو والتطرف والوحش…
وتبرز خطورة هذا الحدث انه يقع فيما يبدو أن هناك اتفاقاً دولياً على انجاز حل في سوريا، وان الانخراط العلني الإسرائيلي هو للإعلان عن رفض صهيوني لأي محاولة لإنهاء الصراع الدموي في سوريا، وهو يذكرنا بانخراط مماثل في جنوب لبنان عام 1976 حين لاحت بعد قمة الرياض السداسية في خريف 1976 (مصر، سوريا، السعودية، الكويت، لبنان، فلسطين) بوادر حل للحرب اللبنانية في جولتها الأولى (حرب السنتين) ما لبثت ان أقرته قمة عربية في القاهرة ودعمته بإرسال قوات الردع العربية (غالبيتها قوات سورية) والتي تمكنت خلال ساعات من وقف إطلاق النار في كل لبنان ما عدا الجيب الحدودي في جنوب لبنان حيث أشعل الصهاينة بمساعدة جيش لبنان الجنوبي وقيادة سعد حداد حرباً مكنتهم من فصل الشريط الحدودي عن بقية لبنان…
ولا يكتفي التماثل بين الحدثين اللبناني (1976) والسوري (2016) بالمواعيد فقط، بل أيضاً بما سبقهما من تمهيد كاستخدام ما يسمى “الجدار الطيب” في جنوب لبنان كممر “إنساني” لعبور الفتنة الصهيونية إلى لبنان، وما تحدثت عنه المعلومات عن استقبال المستشفيات الإسرائيلية للمئات من جرحى المجموعات السورية المتشددة واستقبال ممثليهم في مؤتمرات صهيونية…
في الحالتين التدخل يبدأ إنسانيا لينتهي عسكرياً، ويبدأ بإجراءات “الإغاثة الإنسانية” لينتهي بإجراءات الفتنة الدموية… غير أن التماثل في الشكل والمواعيد لا يعني أبدا تماثلاً في النتائج…
فلبنان عام 1976 هو غير سوريا عام 2016، رغم أن حروب التدمير الممنهج تأكل الأخضر واليابس في البلدين، والمقاومة عام 2016 هي غيرها قبل أربعين عاماً، حيث كانت (المقاومة الفلسطينية) يومها تعاني من حصار شامل، ومن ضعف في القدرات والإمكانات، ومن شرخ بدأ يتسع بينها وبين جمهورها الطبيعي (أهل الجنوب) وحلفائها الطبيعيين في سوريا وصولاً إلى ما يتناسب مع واقع المقاومة على الأرض اللبنانية والسورية معاً التي باتت تشكل تهديداً فعلياً للعدو، وباعتراف قياداته، كما باتت محصنة بحضانة شعبية وبمحور محلي عربي إقليمي دولي يجعل من إمكانية استهدافها أمراً مستحيلاً…
من هنا كان قرار الانخراط العلني للكيان الصهيوني في حرب دائرة في الجولان العربي السوري قراراً استراتيجياً خاطئاً يعكس حال الارتباك الذي يعيشه العدو الذي ظن انه بشن الحرب على سوريا وفيها لعدة سنوات كافٍ لإشغال قيادتها وجيشها وشعبها ولإنهاك حلفائها وفي مقدمهم المقاومة اللبنانية وصولاً إلى إيران وروسيا..
خطأ القرار يكمن أساساً في تجاهله للتغيير المتصاعد في موازين القوى لصالح محور المقاومة، وفي جهله أن الدولة السورية (على عكس موقف الدولة اللبنانية من ظاهرة سعد حداد الذي بقي يتلقى وجنوده رواتبهم من الخزينة اللبنانية) حازمة وحاسمة فيما يتعلق بأي جيب أمني يقوم في خاصرتها لا سيما في الجولان العربي السوري الذي شكل تحريره، وما زال، محور الإستراتيجية العسكرية والسياسية السورية منذ عام 1967.
وخطأ هذا القرار يكمن أيضاً في أن سوريا رغم جراحها، والمقاومة رغم ما تواجهه من حصار، تنتظران لحظة المجابهة مع العدو الإسرائيلي في جبهة جديدة تكمل انجاز التحرير والصمود في جنوب لبنان، وأيضا في أن العالم اليوم لم يعد نفسه، عالم التصفيق والتبرير لكل ما يقوم به هذا الكيان في ظل رأي عام عالمي متصاعد يحاصر التعنت والعدوان الصهيوني….
من هنا كان إسقاط الطائرتين الإسرائيليتين (طائرة اف 16 وطائرة تجسس) بواسطة صواريخ ارض جو متطورة أكثر من رسالة عسكرية للعدو ولكل المراهنين على إسقاط سوريا وتفكك جيشها وارتباك حلفائها، بل هو رسالة إستراتيجية تقول إن المنطقة كلها تدخل مرحلة جديدة قد يسميها البعض “مرحلة فك اشتباك جديد”، أو “مرحلة مقاومة شعبية ونظامية جديدة”، وتدرك إن لأهل البلاد في كل ما شهدته المنطقة عموماً، وسوريا خصوصاً، منذ سنوات إنما يكمن في رأس الأفعى الصهيونية التي تبث سموم الفتنة في كل مكان…
وكما انه ليس من قبيل الصدف أن تختار تل أبيب موعداً للإعلان الرسمي عن انخراطها في الحرب على سوريا ويتلازم مع الإعلان عن اتفاق روسي أمريكي لوقف النار والشروع بحل سياسي، فانه أيضاً ليس من قبيل الصدف أن تختار دمشق الموعد نفسه لإعلان مرحلة جديدة من الصراع مع العدو الصهيوني، لتقول للعالم كله انه كلما اقتربت دمشق من إغلاق ملف “حرب الداخل” فإنها ستتفرغ لحربها ضد الاحتلال، تماماً كما كان أمر لبنان بعد اتفاق الطائف عام 1989، حيث انطلقت في جو السلم الأهلي واحدة من أهم مقاومات العصر بوجه الاحتلال….
فعلاً….”يمدهم في طغيانهم يعمهون”
معن بشور
كاتب عربي