مع الارتفاع الكبير في عدد الفضائيات الدينية في العالم العربي والإسلامي تكاثرت أعداد البرامج الدينية ، بالاضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت مجالا واسعا لكل من هب ودب للحديث في الأمورالدينية وإصدار الفتاوى والأحكام دون امتلاك الأهلية العلمية والفكرية لذلك . وفي الغالب ، تتمحور مضامين الخطاب الديني في الفضائيات العربية حول الفتاوى والأحكام ذات الصلة بالطلاق والزواج والميراث والعبادات . وشغلت هذه الظاهرة اهتمام عدد من الباحثين،ومنهم الباحث المغربي يحيى اليحياوي الذي طرح في كتابه القيم ( الخطاب الديني في الفضائيات العربية ) أسئلة جوهرية لم تحظ بعد بكثير من الاهتمام والرصد والبحث العلمي الدقيق . ومن هذه الأسئلة الحارقة : هل كثرة الفضائيات الدينية سببه تنامي الحاجة إلى الدين كرمزٍ للهوية، أو كملجأ للإحتماء من إنفتاح المجال واسعاً لعولمة تنقل السلع المادية واللامادية الغربية، أم نتيجة نشاط الحركات الإسلامية في نشر الدعوة، ومواجهة الأطراف الدينية الأخرى المنافسة لها . وهل تعاظمُ العداء للإسلام والمسلمين في الغرب استدعى تأسيس فضائيات دينية تقدم برامج باللغات الأجنبية، تعطي صورة إيجابية عن الإسلام للجمهور الغربي؟وكيف بدأت ظاهرة الدعاة الجدد اللذين يروجون لثقافة دينية تلتقي حولها كلّ الأطياف الإجتماعية .
ومن المتفق عليه أن المشرفين على البرامج الدينية في القنوات التلفزية يقومون بوظائف متعددة من أبرزها الوظيفة الدينية المتمثلة في التعريف بالشعائر وتعليمها، والوظيفة الإرشادية بتوجيه الناس، والوظيفة الاجتماعية بإصلاح ذات البين بين أفراد المجتمع . وتحظى مثل هذه البرامج دائما باهتمام المشاهدين ومتابعة المحللين ، خاصة إذا كان ضيوف هذه البرامج من الائمة والدعاة والمفكرين والعلماء المشهود لهم بالخبرة والتخصص الذين يخدمون قضايا مجتمعهم، ويسلكون مسلك الاعتدال والتسامح والإحسان في القيام بمهمتهم، مصداقاً لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
ويعد البرنامج التلفزي «بالتي هي أحسن» الذي تبثه قناة mbc خلال شهر رمضان المبارك للسنة الرابعة على التوالي في طليعة البرامج الدينية والاجتماعية والثقافية ، حيث ما زال يتصدر لائحة البرامج الأكثر متابعةً على المحطات الفضائية العربية منذ عام 2021 .و مع بداية شهر رمضان الحالي شرعت هذه القناة في بث حلقات الموسم الرابع من هذا البرنامج الذي يستضيف الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى ، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ، رئيس هيئة علماء المسلمين، ويعده ويقدمه الزميل الإعلامي السعودي المتألق الأستاذ عبد الوهاب الشهري، وكيل الاتصال المؤسسي في الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي . وينتمي البرنامج إلى صنف البرامج الحوارية يهدف إلى التعريف بقيم الإسلام السمحة في العبادات والمعاملات و يطرح بكل شفافية وبساطة عددا من القضايا الفكرية والثقافية والاجتماعية والتربوية من قبيل الاعتدال والوسطية والتسامح والوئام والسلام والإخاء والحد من الكراهية والتمييز العنصري والتعايش بين أتباع الأديان وحوار الحضارات والثقافات والمشتركات الإنسانية والديبلوماسية الدينية. كما يتناول أهم الأحداث والمستجدات الإقليمية والدولية ، ويناقشها بأسوب سلس وواضح وصريح معتمدا منهجا في العرض والتحليل يشد انتباه المشاهد من مختلف الشرائح الاجتماعية والمستويات العلمية والأكاديمية .
في حلقات الموسم الأول والثاني من هذا البرنامج سنتي 2020 و2021 ، حرص الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى على مناقشة وتحليل عدد من القضايا المعاصرة مستندا في ذلك على توجهات رؤية رابطة العالم الإسلامي الجديدة التي تؤكد أن أتباع الأديان والثقافات اليوم في حاجة ماسة إلى بناء حوار فعال متحرر من رواسب الماضي ، من أجل تعزيز تواصلهم الإنساني وتلاقيهم وتعاونهم في إطار المشتركات والمصالح .من هذا المنطلق ظل الشيخ الدكتور محمد العيسى في أغلب حلقات البرنامج للموسمين الماضيين يشرح ويفسر للجمهور أن تحقيق تلك المساعي ممكن بفضل الجهود الصادقة المنبثقة من حسن النوايا للتعريف بقيم التسامح التي تتمحور حول الحوار والتعايش والتواصل بين الأمم ، وليس الحروب والمواجهات والتعصب الفكري والتطرف الديني. ودعا إلى ضرورة إعادة النظر في بعض المرجعيات الفكرية المنغلقة والمتتشددة والتي تولد سوء الظن بين أبناء الحضارات المختلفة ، تحت ذريعة الخوف من التفرد والتأثير الثقافي للآخر. كما شدد على أهمية وضرورة الإيمان بمبدأ المساواة بين كافة الحضارات المكونة للمجتمع الإنساني باعتبارها حضارة إنسانية واحدة ، يتحمل الجميع مسؤولية النهوض بها لضمان مستقبل البشر، مبرزا ايجابيات التركيز على نقاط الإلتقاء مع الثقافات والحضارات الأخرى بدلا من التركيز على مواطن الخلاف .
أما في حلقات الموسم الثالث من البرنامج عام 2022 ، فقد تمحور النقاش والتحليل حول عدد من القضايا والمواضيع المهمة والمفاهيم والنظريات التي تشغل بال الحكومات والمنظمات والباحثين . ومنها على سبيل الذكرلا الحصر ( الاختراق الفكري والحصانة التربوية – دورالأسرة في بناء الجسور بين الأمم والشعوب – جهود الأمم المتحدة في التقريب بين الحضارات والأمم – القيم الإنسانية المشتركة ودورها في تحقيق السلام العالمي – مكانة بناء الجسور في الحراك العالمي – كرامة أتباع الأديان- السيرة النبوية في التعامل مع الأزمات – الإساءة للإسلام والمسلمين-الفساد الأخلاقي والمالي والاجتماعي- الاجتهاد الشرعي – ثقافة الشكر ... ). كما أفرد البرنامج حيزا للتعريف الشامل برابطة العالم الإسلامي وبدورها في خدمة الإسلام والمسلمين ، وبدعم المستضعفين في انحاء العالم ، والمساهمة في تحقيق الأمن والسلم والتعايش بين الشعوب والتسامح بين أتباع الأديان.
ختاما، يتميز برنامج )بالتي هي أحسن( بأنه لا يقدم للجمهور "منشطا دينيا"، بل يستضيف عالما متخصصا من علماء العالم الإسلامي ورئيس هيئة العلماء المسلمين، ووزيرا سابقا ، وأمينا عاما لمنظمة دولية مرموقة ، يحظى بتقدير واحترام على الصعيد الإسلامي والدولي . ولأنه يخاطب العقول ويحثها على المساءلة ، والتمحيص، والنقد ، والمراجعة فإنه جدير بالمتابعة والمشاهدة ، كما يمثل مادة علمية دسمة لبحوث ودراسات إعلامية ، ولعل طلبة معاهد الإعلام والصحافة وكليات الشريعة يقومون بذلك مستقبلا.
*********************************
محجوب بنسعيد
باحث في الاتصال والحوار الحضاري