المفارقة أنه في كل عام تصدر في إسرائيل كتب وأبحاث جديدة عن الحرب ودروسها واستخلاصاتها، وتقرأ مراجعات وتصويبات مستمرة لدى الإسرائيليين، ولا تجد مثل ذلك لدى العرب، بل ثمة صعوبة في العثور على كتب ودراسات عربية مُعتبرة عن الحرب، وكان يفترض العكس، أي أن يميل الإسرائيليون لـ "السكوت" عنها أو أن يكتبوا في تبريرها، فيما يميل العرب لـ"المبالغة" في الحديث عنها وفي إبراز دروسها.
علينا النظر للحرب وفق ما وعدت به أي وفق دلالاتها البدئية لا وفق ما انتهت إليه
مثلت حرب تشرين لحظة فارقة في تاريخ المنطقة، بالنظر إلى ما وعدت به عربياً، وكان كبيراً، وما أحدثته لدى الإسرائيليين، وكان كبيراً أيضاً.
بعد عقود من الاختراق والإجهاد والفشل، كان الاعتقاد أن العرب، المأزومين في كل شيء تقريباً، لا يمكنهم أن يقوموا بحرب ضد إسرائيل. صحيح أن العداء لإسرائيل كان واضحاً وقوياً، إلا أن تحويله إلى فعل سياسي-عسكري كان دونه صعوبات كبيرة. ومن هنا كانت الصدمة أو المفاجأة لدى الإسرائيليين، وحتى لدى العرب أنفسهم، من إعلان الحرب، فقد كان ذلك من الأمور التي يستحيل التفكير فيها وخاصة بعد صدمة حرب حزيران/يونيو 1967.
أخبرني قائد القوات الخاصة التي كانت عماد الجبهة السورية في حرب تشرين، أن "جيوشنا لا ينقصها الرجال ولا الإرادة، وقد تمكنت من تحقيق انتصارات كبيرة في بداية الحرب". وكسرت الحرب بالفعل أساطير عديدة، ليس أسطورة "العدو الذي لا يُقهر" فقط، وإنما أسطورة أن العرب غير قادرين على خوض حرب، وأنهم "ظاهرة صوتية"، وأمة "أقوال لا أفعال"، وأن الاختراق الغربي والعالمي للمنطقة وضع حدوداً وسقوفاً للسياسات فيها، بما في ذلك الحروب، ولن يسمح للعرب وغيرهم أن يفعلوا شيئاً ضد إسرائيل.
تكشف كتابات قادة إسرائيل آنذاك عن حجم التأثير الذي وقع على الكيان في بدايات الحرب، فقد كتبت غولدا مائير في مذكراتها قائلة: "لا شيء أقسى على نفسي من كتابة ما حدث في أكتوبر، فلم يكن ذلك حدثًا رهيبًا فقط وإنما كان مأساة عاشت وسوف تعيش معي حتى الموت، فلقدت وجدت نفسي فجأة أمام أعظم تهديد تعرضت له إسرائيل منذ نشأتها ولم تكن الصدمة فقط في الطريقة التي يحاربوننا بها، ولكن أيضًا لأن عددًا من المعتقدات الأساسية قد انهارت أمامنا". ومن الهام التركيز على العبارة الأخيرة في كلام مائير.
لكن هل رأى العربُ حربَ تشرين كذلك؟ ربما، فقد أخبرني أحد قادة الجيش السوري في تلك الحرب، وكان على رأس القوة التي احتلت الموقع الحصين الذي أقامه الإسرائيليون على قمة جبل الشيخ المحتل، "أن الجيش السوري كان قادراً، ولكن السياسة هي التي أفسدت الأمور".
لعل أهم إنجازات الحرب لا يكمن في بعدها العسكري، على أهميته، ولا في بعدها السياسي الذي تم إجهاضه سريعاً عندما غادرها أنور السادات قائلاً انه أرادها "حرب تحريك" من أجل التسوية، وليس "حرب تحرير"، وذهب إلى القدس المحتلة وكامب ديفيد من أجل توقيع صلح منفرد مع إسرائيل، تاركاً جيش سوريا في حرب استنزاف طويلة؛ الانجاز الذي نتحدث عنه هو أن الحرب انطلقت من "بداهة" أن الصراع الرئيس في المنطقة، هو الصراع مع إسرائيل، وهو ما أكدته وكثفته بعد عدة عقود حرب تموز/يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل.
المفارقة أنه في كل عام تصدر في إسرائيل كتب وأبحاث جديدة عن الحرب ودروسها واستخلاصاتها، وتقرأ مراجعات وتصويبات مستمرة لدى الإسرائيليين، ولا تجد مثل ذلك لدى العرب، بل ثمة صعوبة في العثور على كتب ودراسات عربية مُعتبرة عن الحرب، وكان يفترض العكس، أي أن يميل الإسرائيليون
لـ "السكوت" عنها أو أن يكتبوا في تبريرها، فيما يميل العرب لـ "المبالغة" في الحديث عنها وفي إبراز دروسها. والمفارقة أيضاً هي أنك لا تجد لدى العرب سردية كاملة، رسمية أو غير رسمية للحرب، وهذا من الأمور التي يجب التدقيق فيها.
غير أن نقطة القوة في الحرب كانت هي نفسها نقطة التهديد أو الخطر، إذ ان تجربة الحرب نبهت إسرائيل وحلفائها إلى ضرورة "احتواء" أي إمكانية لقيام أي حرب أخرى ضدها، ويمكن وضع الكثير من الصراعات والنزاعات الداخلية والبينية في هذا السياق، أي خلق حروب بديلة تشغل المنطقة عما يجب أن تنشغل به حقاً، وهو -كما ذكرنا- البداهة الأساسية للصراع فيها بين العرب وإسرائيل.
مع الانزياح –قُل الاختلال- في المدارك والسياسات، وإحلال مقولات "البوابة الشرقية"، والحروب العربية-العربية، وصولاً إلى "حلف الاعتدال" مقابل "حلف المقاومة"، و"مذهبة" السياسات الإقليمية و"تطييفها" أو"سعودتها"، وبروز تحالفات بين السعودية وإسرائيل ضد إيران وحلف المقاومة الخ بدت المنطقة كما لو أن حرب تشرين لم تقع!
وفي الوقت الذي نقرأ فيه اليوم تجربة حرب تشرين، نقرأ بالمقابل أن عملاء المعارضة المسلحة في سورية سرقوا مقاطع إعدام الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في دمشق وأهدوه لإسرائيل، وذهبوا للاستشفاء في مشافيها، وتلقوا أسلحة ودعماً متعدد الأشكال منها، وقالوا أن حربهم ليست ولن تكون معها.
عندما نتحدث عن حرب تشرين وإنجازاتها الكبيرة، لا يكفي أن نتذكر، ولا أن نُراجع الأرشيف، ولا أن نُقارِبَ اللحظة الراهنة بمثال أو منوال سابق، وإنما يجب الانتقال من ايديولوجيا الحرب إلى معرفة الحرب، أو من خطاب الحرب إلى ابستمولوجيا الحرب، إذا صح التعبير، وذلك من خلال ديناميتين متوازيتين، الأولى هي التدقيق في المنطق العميق للحرب، وتقصي "المسافة" أو "الفجوة" بين نقطة الانطلاق ونقطة التوقف فيها، ولماذا لم تنته إلى ما قامت من أجله؟ والثاني هو المقارنة بين لحظتين تاريخيتين هما لحظة الحرب عام 1973-1974، واللحظة الراهنة اليوم، والسؤال لماذا يتم "التنكر" للحرب و"الإخفاق" في استخلاص الدروس والعبر منها، ولماذا لم تعُد إسرائيل هي الخصم أو العدو من منظور طيف متزايدة من فواعل السياسة في المنطقة، بل أصبحت معاداة إسرائيل تهمة؟!
معنى حرب تشرين "لا يفسره ما بعده"، وإلا فإن ذلك "يُثَبِّتُ" ما حاولت إسرائيل وحلفاؤها القيام به، وهو أن الحرب كانت قراراً خاطئاً أو مغامرة، هذا ما يحاوله أيضاً حلفاؤها الجدد المتورطون في الأزمة السورية. وقد قال السيد حسن نصر الله في ذكرى حرب تموز، أن السعودية "هي التي قتلتنا في حرب تموز"، وشدد على أنه "لا ينبغي أن نغفل أن عدونا هو الإسرائيلي"، رغم أن "الخطر الوجودي في المنطقة هو الخطر الوهابي".
يُفترض أن تُركِّز قراءة حرب تشرين على مدارك اسرائيل وتقديراتها، ذلك أن الخوف الذي أثارته الحرب لديها كان عميقاً وخطيراً، ولا يمكنها أن تغفل عنه. وعلينا النظر للحرب وفق ما وعدت به، أي وفق دلالاتها البدئية، لا وفق ما انتهت إليه، أو ما أعقبها، ذلك أن إكراهات السياق (الإقليمي والدولي) كانت قوية وقاهرة. وهذا يمكن أن ينسحب -في جانب منه- على تجارب الصراع العسكري والسياسي الأخرى مع إسرائيل، وخاصة تجارب المقاومة الوطنية واليسارية ثم مقاومة حزب الله في لبنان وصولاً إلى تحرير الجنوب عام 2000 ومن ثم حرب تموز 2006، وانتهاء بتجاذبات الحرب في سورية وتورط إسرائيل فيها.
كان الأمل أن يكون قرار حرب تشرين ثمرة لتوافقات ووعي بأهمية وأولوية ما قامت من أجله، وأن تكون الحرب بذرة ولحظة تأسيس لما بعدها، ولكن ما حدث بعد ذلك كان مختلفاً، وذلك لا يقطع مع بداهة أن الصراع الرئيس في المنطقة هو مع إسرائيل، بل يؤكدها ويعززها، من دون التقليل من تأثير مصادر التهديد الأخرى. وقد كشفت الأزمة في سورية عما كان مخبوءاً أو مستتراً من رهانات إسرائيلية خلال عدة عقود، وكشفت بالقدر نفسه عن أن انخراط فواعل المقاومة في الدفاع عن سورية هو استعادة نشطة لـ "البداهات العميقة" لحرب تشرين نفسها.
المصدر: الميادين نت