كان لأمّي رحمها الله صندوق كبير من خشب يشبه خشب الصندل، هو كلّ ما ملكت من متاع الدنيا. أين هو ذلك الصندوق اليوم؟ ذهب مع الأيام كما ذهبت صناديق أخرى كثيرة غيره أو ذهب ما فيها. أذكر أنّ مفتاحه الوحيد قد ضاع من أمّي؛ وعزّ عليها أن تخلعه، وكانت تقول: «وبعد ليس فيه شيء ذو بال. إنّه يزين الغرفة وهذا يكفي». حتى عنّ لي ذات يوم وأنا فتى يافع أن أقلّبه؛ فإذا هو بلا قاع، ولا شيء فيه شأنه شأن صناديق كثيرة غيره لا قاع لها. على أنّ الصناديق وإن تشابهت أنواع، فهناك الصندوق الذي لا يبوح بما فيه، وهناك الصندوق الذي يبلع ولا يدفع، يشفط شفطا ولا يمتلئ أبدا، وهناك الصندوق الأسود الذي لشدّة سواده؛ لا ترى ما فيه، وهناك صندوق الطّرد في المراحيض يدفع ولا يبلع، وهناك صندوق البريد يوزّع الأكاذيب والأحلام بين الناس، وهناك صندوق النقد الدولي؛ وفي شأنه تقول العرب: نقدت الحيّة الرجل أي لدغته، واللدغ أنواع؛ فهناك اللدغة القاتلة التي لا تبقي ولا تذر، وهناك اللدغة التي تخدر وتنوّم، وهناك لدغة النحلة ولدغة العقرب ولدغة الحيّة ولدغة بني آدم وهي أشدّ فتكا وأثبت مقتلا.
جامعة الدول العربيّة اليوم، صورة من صندوق أمّي. وأنا أقول هذا لا تهكّما ولا يأسا؛ علما أنّ اليأس من كلّ شيء، قد يكون مفتاح الأمل أو الرجاء في كلّ شيء. وأنا أقول هذا دون أن يكون من مقاصدي في هذا المقال، الخوض في قضايا إيديولوجيّة أو قوميّة بالمعنى الحصري للكلمة، وإنّما طرح أسئلة لا أكثر ولا أقلّ؛ يثيرها في كثير منّا الراهن العربي القلق الذي لا ندري أيّان سيرسي بنا في قادم الأعوام.
الوطن العربي، من حيث وحدة تاريخ وجغرافيا، حلم لم يتحقّق في أيّة مرحلة من تاريخ العرب، لا قبل الإسلام ولا بعده؛ بل لعلّه يلوح اليوم أبعد منالا. وأمّا العالم العربي فواقع، ولأكثر من بلد عربيّ تنوّعه وتركيبته الخاصّة. وما كان لنا أن نجزم منذ البدء بكون «الوطن العربي» لا يتعدّى كونه حلما، إلاّ لأنّنا نأنس انجذابا إلى أفق لا ينكر وجود الكلّيّ، ولا ينكر وجود مفهوم كلّيّ للأشياء أو للأوطان فهناك الاتّحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكيّة، والإمارات العربيّة المتّحدة… ولا ينكر حدّا كلّيا لجنس أو لنوع من الأشياء؛ لكنّه ينكر أن يكون هذا الكلّي، مفهوما كان أو جنسا أو كيانا، وجودا قبليّا على غراره توجد بعديّا الأشياء المنسوبة إليه؛ أي هذه الأوطان أو البلدان أو الدول العربيّة. وإذا كان لهذا الكلّيّ أن يوجد، فلَهُ أن يوجد من جهة كونه مؤمّلا بعْدُ، أي من جهة كونه رهان شعوب تختبر كينونتَها الفعليّة على محكّه عساها تدركه.
وعليه، فإنّ ما هو موجود فعليّا فرديّات (أوطان ودول) لا كلّيات (وطن عربي). والكلّيّ مطلق، والمطلق مشرع أبدا على كلّ الاتجاهات، أو هو متعالٍ بإطلاق على الواقع، أو منقطع عنه.
وقد كشفت ثورات «الربيع العربي» عن هذا التنوّع المتعدّد الذي يمكن أن يغني عالمنا العربي. ولقد كانت الانتخابات التي أجريت إبّان الربيع العربي؛ بـ «شفافيّة» غير معهودة في تونس والمغرب ومصر، خير دليل لما نحن فيه؛ وهي التي أفضت في بعضها إلى نجاح التيّارات الدينيّة، فإخفاق بعضها، و«نجاح» أخرى ليبراليّة أو «علمانيّة» لأسباب ليس هذا مجال شرحها.
كان العالم منذ 2011 يترقّب ما ستؤول إليه تطوّرات «الربيع العربي»، وإذا به اليوم يترقّب ما سيؤول إليه التقارب الروسي الأمريكي المثير. ومن حقّنا أن نخشى أن تكون فلسطين وسوريا أبرز ضحاياه.
هذه بيئة سياسيّةٍ جديدة مختلفة، يفترض أن تؤدّي إلى إصلاح اجتماعيّ واقتصاديّ عميق يوزّع الغنى لا الفقر، ويؤمّن حماية التجارة والصناعة، ويرعى الزراعة، ويشجّع على بعث المشاريع والاستثمارات وخلق مواطن الشغل؛ في ظلّ عدالة جبائيّة حقيقيّة؛ حتّى لا تخيب آمال ملايين الشباب المعطّلين عن العمل.
من ينهض بهذا العمل في واقع عربيّ مشظّى؟ قيل لنا في بدايات الربيع العربي إنّ على الجامعة العربيّة أن تتحمّل مسؤوليّاتها المختلفة، وأن تعمل على صون عمليّة التغيير التي بدأت، وحماية الشباب وثورتهم على النظم البالية أو السياسات الخارجيّة المناوئة لمصالح العرب، والسياسات الداخليّة المهترئة التي اقتصرت على إدارة الفقر بدل محاربته، ولم تتعهّد التربية والثقافة والتعليم، بما ينبغي لها. وقيل إنّ الجامعة العربيّة إرساء نظامٍ عربيٍّ جديد يتّخذ من عمليّة التغيير الشاملة منطلقا له.
والحقّ أنّ مشروعا كهذا لا يمكن أن تنهض به جامعة الدول العربيّة المرتهنة بسياسات دولها ومصالحها الوطنيّة التي تضيق وتتّسع حسب الحاجة والظروف الداخليّة والخارجيّة، وإنّما جامعة يمكن أن نسمّيها «جامعة العالم العربي» تقدر على أن تدير اختلافاتنا وخلافاتنا، في إطار ديمقراطيّ؛ ونحن اليوم نتغيّر، وشعوبنا تتغيّر، وآفاقها تتّسع بفضل وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، والانفتاح على أنماط عيش أخرى داخليّة (عربيّة)، وخارجيّة (غربيّة).
ومن هذا المنطلق فإنّ الحلّ يتمثّل في بلورة مفهوم واضح للدولة، وقد لا تكون الدولة الدينيّة أو العلمانيّة، وإنّما الدولة القائمة على الديمقراطيّة، والتي يمكن لها أن تتّخذ من المقاصد الدينيّة ذات العمق الأخلاقي، مصدرا لقيمها؛ وليس باعتبار الدين نظاما سياسيّا. فإذا افترضنا أنّ الإسلام هو الأساس في بنيان الدولة، فإنّ غير المسلمين من المسيحيّين؛ ونحن ندين لهم بالكثير من نهضتنا وحداثتنا، قد لا يجدون مكانهم في هذا البنيان؛ إلاّ باعتبارهم من «أهل الذمّة» لا مواطنين متساوين مع غيرهم في الحقوق والواجبات.
وقد يدفعهم مثل هذا الافتراض إذا ما تحقّق؛ إلى أحضان الكنيسة، بكلّ ما يترتّب عنه ذلك من إعادة فرز المواطنين والمجتمع عامّة؛ على أساس ديني، وليس على أساس مدني أو وطني.
ومن المفيد في سياق كهذا، أن نحكم التمييز بين تيّار سلفيّ يصرّ على أنّه لا حكم بغير شرع الله؛ وهو شرع موضوع قراءة وتأويلات شتّى؛ وتيّار إسلاميّ يخلط بين المقدّس والوضعي وإن كان يسمح بمساحة من الاختلاف السياسيّ والفكريّ، لإقامة تحالفاته. إنّ بناء جامعة للعالم العربي تصون الديمقراطيّة وتحمي شعوبها وموطنيها، وتقيم حكم القانون، وتتعامل مع الغرب بندّيّة، يستدعي لا شكّ إعادة صياغة ميثاق جامعة الدّول العربيّة والمؤسّسات التابعة لها، حتّى تصبح ممثّلة أكثر لشعوبها، بقدر ما يستدعي العمل على تعزيز مفهوم الدولة الديمقراطيّة التي تستمدّ قوّتها لا من ذاتها، بل من شرعيّتها بالمعنى الاجتماعي، ومن المواطنة أي قبول الناس بها وليس إذعانهم. إنّ المواطنة هي في نهاية المطاف، موضوع تاريخ وحصيلة انتصارات وهزائم، وإجراء بصدد التحقّق. وهي بقدر ما تحمّلنا واجبات تضع حقوقا مدنيّة مثل الحرّيات الفرديّة وحرّية التعبير وحرّية الملكيّة وأخرى سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة مثل الحق في الشغل وفي الإضراب… وربّما الحق في «ضريبة المواطنةّ» نفسها.
أليس نرى جميعا كم ضاقت مساحة الواقع، وكم اتّسعت مساحة الحلم؟ وماذا سيجد حكّامنا غير أحلام أو بقايا أحلام هي كل ما تبقّى من شباب مسروق أو مغتصب؟ هل سيحاكموننا على أحلامنا؟ الحمد لله أنّهم لا يقرأون الأحلام، وإنْ كثر قرّاء الأحلام في عالمنا العربي من علماء فلكيّين وروحانيين، من خرّيجي الجامعات، حتى استنجدت بهم أشهر الجرائد والتلفازات ليقرأوا ما تخفي النفوس وما تضمر؟ مساكين هم لو خرجت أحلام الناس إلى العلن! إنّ إعادة بناء الجامعة العربيّة من منظور عالم عربيّ ديمقراطيّ متنوّع متعدّد، يمكن أن يطيح ولو بعد زمن، بالصورة التي يريد اليمين الغربي ترويجها عن العرب، وهي صورة الكائن الإرهابي المخيف، وأن يهتك سرّ العذاب الذي يمكن أن يكابده أيّ واحد منّا في صمت؛ وهو في أيّ بلد أوروبي، وكأنّه عارٍ في مرايا الآخرين.
ربّما ليس هناك ما هو أكثر فظاعة من مشهد يسوع في المعتقد المسيحي، وهو ملطّخ بالوحل وبروث البهائم، ومصلوب بين لصّين مصلوبين! كما كتب جوليان المرتدّ الامبراطور الروماني الذي ولد في القسطنطينية عام 331 م ومات في بلاد الرافدين عام 363 م. فقد رأى في ذلك المشهد عارا لا يليق بـ«ربّ» حقيقيّ. ولكنّه نسي أنّ وجه المسيح المصلوب يحمل الشهادة على عذابه وعذابنا.
على أني لا أقارن بين صورتين مختلفتين، ولكنّ صورة المسلم اليوم والعربي تحديدا، مهما يكن الموقف من الدين، وبغضّ النظر عمّا يقترفه بعضنا في حقّ الإسلام نفسه، أو في حقّ شعبه، تؤكّد لنا أنّ الجرم لا يعاقب بالجرم. أمّا إذا كان الأمر على ما يريدون، فسأبحث عن صندوق أمّي، ولأجعلنّ له قاعا.
منصف الوهايبي
كاتب تونسي