المبدأ الذرائعي في السياسة، والذي لا يُغفله إلا السذّج وطيّبو النوايا، يفرض على المرء أن يرى عاملَين اثنين، على الأقلّ، خلف التفاهمات الروسية ـ التركية التي انتهت إلى فرض الهدنة بين النظام السوري وبعض فصائل المعارضة.
ولعلّ العامل الأول، الروسي، يتمثل في حاجة موسكو إلى طراز، متقدّم كما تأمل، من الاستثمار السياسي لما بعد «انتصار حلب»؛ لا يتيح إجبار الطرف «المنهزم»، افتراضياً، على الذهاب إلى طاولة المفاوضات في الأستانة، فحسب؛ بل، كذلك، يُلزم النظام السوري، «المنتصر» افتراضياً أيضاً، على ملاقاة الاجتماع في العاصمة الكازاخستانية. وهذه ليست حاجة معنوية، وليست تظهيراً إعلامياً لذلك «الانتصار» في حلب؛ بل هي، أغلب الظن، عتبة أولى من ستراتيجية روسية تستهدف تقليص تورط الكرملين العسكري في سوريا، ما أمكن ذلك؛ دون التفريط في التوظيف السياسي لما أنجزه ذلك التورط حتى الساعة، بل العكس: الذهاب في استثماره خطوات أبعد.
الأرجح، على الجانب التركي، أنّ أنقرة بحاجة إلى استثمار هذه الستراتيجية الروسية، لجهة تطوير عمليات «درع الفرات»، ميدانياً على الأرض، وإتمام مساحة التوغل داخل الأراضي السورية على نحو يكفل إحكام الطوق أمام أي مسعى كردي نحو تطوير «الفدرالية»، أو الوصل بين مناطق سيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي، المتقطعة، على امتداد الحدود التركية ـ السورية، في الشمال. وما دامت موسكو قادرة على إحضار قوى كردية إلى مطار حميميم، تحت علم النظام، بل دفعها إلى إعادة تجزئة مفهوم «روج آفا» ذاته؛ فإنّ موسكو يتوجب أن تكون قادرة، أيضاً، ضمن ستراتيجية الاستثمار إياها، على استبعاد الكرد من المعادلة، وإنْ مؤقتاً، لصالح منح أنقرة الترخيص الضروري للوصول إلى بلدة الباب.
ثمة، إذا صحّ توصيف الحال هكذا، غائبان عن المشهد: واشنطن، وطهران. وغياب العاصمة الأولى ليس مردّه أنها منشغلة بمراسم تسلّم الرئيس المنتخب دونالد ترامب، بل أساساً لانّ السياسة الأمريكية في سوريا ما تزال تتخبط ضمن المعادلات المتضاربة، ذاتها، التي فرضتها «عقيدة» الرئيس الأمريكي باراك أوباما. ولقد سبق لبعض تلك المعادلات أن توصلت ـ ضمن تفاهمات مع موسكو، كذلك ـ إلى وقف لإطلاق النار في سوريا تمّ إسباغ الشرعية عليه في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، أواخر 2015؛ لكنه انتهى إلى فشل ذريع، وبقي حبراً على ورق. وهكذا فإنّ أقصى ما تستطيع واشنطن التدخّل فيه، بصدد الهدنة التي رعتها موسكو وأنقرة، هو بعض التشويش، عن طريق الحلفاء الكرد؛ وذاك، في كلّ حال، لن يرقى إلى مستوى التعطيل أو حتى العرقلة.
الغائب الثاني، طهران، لا يغيب إلا لأنه غير معنيّ بأية «هدنة» فعلية على الأرض، بل هو يواصل القتال حيثما تواجدت وحداته، من «الحرس الثوري»، إلى «حزب الله»، فالميليشيات ذات الهوية المذهبية الشيعية على اختلاف جنسياتها. وليس ما يتردد عن «خلاف» روسي ـ إيراني حول الوضع الراهن في سوريا ـ أو بالأحرى حول مشاريع موسكو في الاستثمار السياسي لما بعد «انتصار» حلب، تحديداً ـ سوى مآل طبيعي لتقاطع المصالح والغايات بين موسكو وطهران، وكذلك طبائع التوظيف البعيد أو القريب. وفي الحصيلة، إذا صحّ أن إيران هي عرّاب النظام الأول، مالياً وعقائدياً ولوجستياً؛ فإنّ موسكو هي عرّاب النظام العسكري، الذي بات أقرب إلى «متعهد» وصاية وضبط وحماية في آن، مفوّض من قوّة إقليمية كبرى هي… إسرائيل!
وكما تمخضت جنيف ـ 2 عن مسرح عبث لم يجدِ فتيلاً، ما خلا إراقة المزيد من دماء السوريين، وإطلاق يد النظام نحو حدود أكثر همجية في تدمير البلد؛ فإنّ الهدنة الراهنة، وتباشير الأستانة المقترنة بها، لا تتجاوز الطموح إلى الانطلاق من الصفر؛ بافتراض أنها بلغت ذلك الصفر، أولاً!
صبحي حديدي