كنا نسمع عن شهادات تباع، وأخرى تشترى. كما سمعنا على ألسنة زملاء درسوا في فرنسا، عن كتاب يتفرغون لكتابة أطروحات بأسماء غيرهم مقابل المال. أعطيت لهؤلاء في فرنسا تسمية «الكاتب ـ العبد»، الذي يدبج لمن شاء رسالة في أي موضوع. وسمعنا من زملاء سجلوا أطروحاتهم في بعض الدول العربية، أنهم استرخصوا بطاقة الطائرة والإقامة ورسوم التسجيل، بهدف الحصول على شهادة الدكتوراه بلا وجع البحث، ولا أرق السهر، ولا معاناة البحث عن المصادر وقت الإعداد، والهوامش الضائعة وسط الملفات بعد الانتهاء.
إن من دفعوا للكاتب، أو تجشموا دفع الرسوم، لا مكان لهم في البحث الأكاديمي، ولا مشاركة لهم إلا في اللقب «الجامعي» الذي لا يستحقونه، وهم يتقاضون أجورا، أو مرتبات تقاعد لا تختلف عن زملائهم الذين عانوا معاناة حقيقية من أجل البحث العلمي.
نستحضر هذه الظاهرة الآن ونحن نتابع ما يجري على الساحة الجامعية العربية، وقد دخلتها «سوسة» البيع والشراء، ولم يبق التفكير منصبا إلا على كيفية استخلاص الرسوم، ووضع العقبات أمام من يفكر في متابعة المسار الجامعي.
ظلت الجامعة المغربية بمنأى عما عرفه بعض الجامعات العربية، وظلت متميزة بمجانية القبول في الماجستير والدكتوراه، وأدى ذلك إلى تشجيع العديد من الدول العربية للتسجيل في المغرب. وفي هذه السنة، تسجل معي أربعة طلبة من المتميزين خلقا وعلما. وأفاجأ أن أحدهم يتصل بي ليخبرني بأن جامعة محمد الخامس تطلب رسوم التسجيل السنوي، ومقداره (مليون سنتيم) أي عشرة آلاف درهم، تؤدى كل سنة، بدءا من تاريخ التسجيل إلى تاريخ المناقشة، وبأسف شديد عبر عن استحالة الحصول على المبلغ المطلوب للتسجيل، وهو حديث التخرج ولا يملك قطميرا. وعبر عن الإحساس نفسه طالبان آخران.
عندما وضعت أمامنا ملفات الانتقاء، وأجرينا المباراة، وتم تحديد لائحة المقبولين، لم نكن على علم بهذا الإجراء الذي غُيب فيه الأساتذة، ولم يُستشاروا، لا في القيمة المالية، ولا في مآلها. ورفعنا النتائج وننتظر توقيع الملفات، ولقاء الطلبة لتدقيق الموضوعات وتحديد مناهج العمل، وتسطير برامج التكوينات. ويأتي التساؤل من لدن الطلبة، وتكون الاعتصامات.
أتساءل: متى يمكن للسياسات التي نتخذها أن تتجاوز المباغتة والارتجال وعدم إشراك المعنيين بالأمر، وهم الأساتذة الذين يتحملون التأطير والبحث؟ إن المبادرات الكبرى التي تأتي على المكتسبات لا يمكنها، مهما كانت وجاهتها أو أهميتها إلا أن تجعلها فاقدة لأي مصداقية. إنها تعبر فقط عن فرض سياسة الأمر الواقع. ومن لم يستفد من الآثار السلبية لمثل هذه السياسة لا يمكنه إلا أن يسهم في محورة النقاشات والمطالب حول الجزئيات والتفاصيل التي تضيع فرص خوض النقاش الحقيقي حول كيفية تطوير البحث العلمي الذي ينبغي أن يتجند له الجميع من أجل الارتقاء به إلى المستوى المطلوب؟
فهل فرض الرسوم على الموظفين يسهم في تطوير البحث العلمي؟ إذا ارتأى المبادرون بجعل جامعة محمد الخامس، وهي الجامعة الرائدة على المستوى المغربي، وصارت لها مكانتها عربيا، أنها تفعل ذلك، فلا يمكن سوى التصفيق لهذا الإجراء الذي لا شك أن له ما يوازيه من أجل تحقيق تلك الغاية الكبرى. فماذا يوازي هذا الإجراء لتبرير الرسوم؟ أهناك تكوين علمي خاص، وساعات إضافية تعطى للموظفين بهدف الارتقاء بمستواهم الأكاديمي، ورحلات علمية إلى جامعات عالمية لتعميق طاقاتهم البحثية وتطويرها، أو إعداد دورات تكوينية في تخصصات متعددة، وما شابه ذلك من المبررات الوجيهة المتصلة بالبحث العلمي؟ أظن أنه إذا كان ذلك كذلك، وهو ليس كذلك، فلا أشك إلا في أن الطلبة، حتى غير الموظفين منهم، سيدفعون هذه الرسوم بتلقائية وانشراح صدر، مهما كانت ظروفهم المادية. وبما ان الأمر ليس كذلك، فليس سوى تعبير عن الارتجال والمباغتة وعدم المشاورة وفرض الأمر الواقع، وكلها سلبيات التدبير غير السليم.
مَن مِن موظفي التربية الوطنية أو الأمن، أو الصحة عموما، أو ممن يود إعداد دكتوراه، تخصيصا، يمكنه أن يوفر مبلغ عشرة آلاف درهم كل سنة؟ وماذا يمكن أن نقول عمن هم في مقتبل حياتهم العملية ومقبلون على تأسيس أسر، والنفقة على عائلاتهم التي كانت تنتظر توظيفهم، بعد أن اعتصموا سنين عديدة أمام قبة البرلمان، أو نجحوا في إحدى المباريات بعد انتظار طويل، من أجل حمل العبء، وانتشال إخوانهم الصغار من الحاجة ليس إلى حياة الرفاهية، ولكن إلى لباس ودفاتر تعجز الأسر الفقيرة عن توفيرها لأبنائها؟ هذا الشاب الطموح الذي تخرج من المركز التربوي، أو المدرسة العليا للأساتذة، وهو الأكثر حظا، كيف يمكنه أن يتأهل، ويكتري شقة؟ ويدفع عشرة آلاف درهم سنويا، ونحن نعرف جيدا الوضعية الاجتماعية لمن يتابعون دراساتهم في كليات الآداب؟ ولنفرض جدلا أنه حصل على الدكتوراه في زمن قياسي، فهل سيرتقي من التعليم أو من الوظيفة التي يشغلها، ويضمن له ذلك الالتحاق بالتدريس بالجامعة؟
سياسة الأمر الواقع لا يمكنها أن تطور الجامعة. وما أكثر المبادرات التي يمكن التفكير فيها للتطويرǃ
سعيد يقطين٭ كاتب مغربي