وجهت الولايات المتحدة ضربة لمطار سوري عسكري، تشير أدلة متضافرة أنه الموقع الذي انطلقت منه طائرات نظام الأسد، التي قامت بالهجوم الكيماوي على بلدة خان شيخون الصغيرة في محافظة إدلب وأزهقت أرواح العشرات من سكان البلدة. ثمة جدل كبير، بالطبع، حول الأسباب التي دفعت الرئيس الأمريكي للتصرف تجاه نظام الأسد بصورة مختلفة عن السياسة التي اتبعها سلفه طوال ست سنوات من الثورة السورية. لا تبدو إدارة ترامب في وضع مريح داخلياً، أو على صعيد الرأي العام الأمريكي، بالرغم من أن الأمريكيين يعاملون الرؤساء عادة بقدر كبير من حسن النية في شهور ولايتهم الأولى. وهذا ما أثار شبهات حول ما إن كانت الضربة الموجهة لنظام الأسد محاولة لإعادة صناعة إدارة ترامب وتصور الأمريكيين لها. من جهة أخرى، توحي تصريحات المسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك تصريحات الرئيس نفسه، أن الضربة العقابية لنظام الأسد قد تكون مقدمة لانعطافة ملموسة في السياسة الأمريكية تجاه سوريا.
ولكن، وبغض النظر عن هذا الجدل، الذي يصعب حسمه الآن لصالح هذه الجهة أو تلك، فإن أحداً لا يمكنه تجاهل ردود الفعل التي أثارتها خطوة إدارة ترامب المفاجئة. في جانب من المشهد، تناسى الأوروبيون خلافاتهم المحتدمة مع الرئيس الأمريكي وسارعوا إلى تأييد خطوته الإنفرادية، التي لم تتمتع بأي غطاء دولي قانوني مثل ذلك الذي يحرص عليه الأوروبيون عادة. الأوروبيون الذين يشعرون بتهديد متزايد من روسيا بوتين، وانتابتهم المخاوف من تخلي إدارة ترامب عن مسؤولياتها الدفاعية في القارة الأوروبية، وجدوا في خطوة إدارة ترامب السورية مؤشراً على توجه أمريكي صدامي مع روسيا. كما أن محدودية الضربة التي أقرها ترامب للنظام السوري، لم تمنع الدول العربية المناهضة لإيران وحليفها في دمشق من الاحتفال والترحيب بالإجراء الأمريكي. ردود الفعل الروسية والإيرانية الغاضبة لم يكن لها سوى تعزيز الصورة الجديدة التي أخذت في التبلور لأمريكا ترامب، وبسرعة فائقة وغير متوقعة. في هذه الصورة، تبدو أمريكا وكأنها تعود لتحمل مسؤولياتها لكبح جماح الابتزاز الروسي في الشرق الأوسط وأوروبا، وتعود لدورها في حماية قيم الغرب العليا وتوجيه صفعة طال انتظارها لدكتاتور سورية الصغير، الغارق في أوهام النصر.
في 10 شباط/فبراير، نشرت النيويورك تايمز مقالة تحليلية حول توجهات إدراة الرئيس الأمريكي، بعنوان: « سياسية ترامب الخارجية تفقد سريعاً حافتها الحادة». تعلق التطور الذي دفع لكتابة المقالة بالاتصال الذي أجراه الرئيس الأمريكي، المثير للجدل، بنظيره الصيني، والذي أكد ترامب خلاله على سياسة «الصين الواحدة» التي أصبحت سياسة تقليدية ومستقرة للولايات المتحدة منذ رئاسة نيكسون. كان الرئيس ترامب فاجأ كثيرين عندما استقبل، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، اتصالاً من رئيسة تايوان، في إشارة تهديدية، توحي بتخليه عن سياسة الصين الواحدة والتعامل مع تايوان كأنها كيان مستقل، له حق التواجد بمعزل عن الصين. تنظر بيكين إلى تايوان، كما كانت تنظر إلى هونغ كونغ، باعتبارها انشقاقاً غير شرعي عن الوطن الأم، وأن مصيرها العودة إلى الصين الواحدة. بهذا المعنى، معنى تخلي ترامب السريع عن الإيحاءات التهديدية لحديثه السابق مع الرئيسة التايوانية، يمكن القول أن النيويورك تايمز اختارت عنواناً ثاقباً لقراءة تحولات ترامب المتعاقبة. ولكن العنوان حمل درجة من عدم الصحة، كذلك، لأنه افترض أن الشعارات والوعود، التي عبر عنها ترامب خلال حملته الانتخابية، أو أن بعض التصريحات التي أطلقها بعد فوزه في الانتخابات، يمكن وصفها بالسياسة الخارجية. ترامب، في الحقيقة، لم تكن له سياسة خارجية واضحة المعالم قبل توليه السلطة. كانت له توجهات ورغبات وميول، نعم، ولكن هذه لا تؤسس لسياسة خارجية.
وحتى الآن، بعد شهور من توليه مقاليد الأمور، لا يمكن تحديد الجوانب الرئيسية لسياسة الرئيس الخارجية بصورة يقينية. ما اتضح بصورة كافية أن الرئيس قد تراجع، كلية أو جزئياً، عن عدد من وعود حملته الانتخابية، وأنه بدأ باتخاذ خطوات محدودة في المجال الخارجي، تختلف إلى حد ما عن سياسات أوباما. ضمن عدة أشياء أخرى، قال ترامب، أثناء حملته الانتخابية، أن صلاحية حلف الناتو انتهت، وأن على حلفاء أمريكا في آسيا وأوروبا أن يتحملوا أعباء الدفاع عن أنفسهم، وأنه سيبدأ مرحلة جديدة من الصداقة والتعاون مع روسيا (التي لم يخف إعجابه برئيسها)، موحياً بأنه سيرفع العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما على الاتحاد الروسي، وقد يتخلى كلية عن أوكرانيا. هدد المرشح ترامب الصين بحرب تجارية؛ بل أن البعض تصور أن الرئيس ترامب سيتبنى سياسة معكوسة لسياسة ريتشارد نيكسون، مثل أن يقيم تحالفاً مع روسيا لعزل الصين وحصارها.
بالنظر إلى قطاع الناخبين، الذي راهنت حملة ترامب على دعمه لتحقيق الفوز، بدت تهديدات ترامب ووعوده أثناء الحملة الانتخابية منطقية. غريبة، ومستهجنة، ومبالغ فيها، بلا شك، ولكنها لم تخطئ هدفها الانتخابي. ولكن، وخلال أسابيع فقط من من تولي إدارته مسؤوليات الحكم، بدأ الرئيس ترامب في التراجع. أعلن ترامب، بلا مواربة، التزامه بحلف الناتو. تراجعت لغة الرئيس ترامب تجاه الصين، وبدا بعد القمة التي عقدها مع الرئيس الصيني أن الولايات المتحدة والصين ستبدأ مباحثات عقلانية للتوصل إلى توافق حول مسائل التجارة بين البلدين. وبعد أن تصاعدت الرهانات على بداية توافقية جديدة في العلاقات بين واشنطن وموسكو، أعلنت إدارة ترامب عن أن رفع العقوبات المفروضة على روسيا ليس مناسباً في هذا الوقت، واستمر تدفق القوات الأمريكية، التي تقرر نشرها مسبقاً في بولندا ودول البلطيق. وحتى في الشرق الأوسط، فاجأ ترامب روسيا بتوجيه ضربته الإنذارية لنظام الأسد، والإعلان بصورة واضحة أن واشنطن ستتخذ إجراءات إضافية ضد النظام إن عاد إلى استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه. ليس ذلك وحسب، بل أن الأمريكيين بدأوا تحقيقاً حول ما إن كانت روسيا تواطأت، بصورة أو أخرى، مع الأسد في الهجوم الدموي على خان شيخون.
ترامب هو رئيس مدهش، وغريب، بلا شك، يتمتع بقدرات نادرة على تأجيج الغضب وإثارة السخرية. ولكن هذا الرئيس، كما كل الرؤساء من قبله، لا يستطع استخدام أداة الدولة، التي انتخب لإدارتها، كيفما شاء وفي أي اتجاه أحب. عندما تتوزع القوة بين المنتخب ومؤسسة الدولة، وعندما تستند عملية الحكم إلى التوازن بين أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، لا يكفي أن تنتصر في الانتخابات لتفعل ما تريد. ثمة اعتبارات استراتيجية تقليدية للدولة الأمريكية، لا يستطيع الرئيس العبث بها؛ وسياسات، لا تستطيع الدولة تحمل عواقبها، مهما كانت قناعة الرئيس بها. وعندما يبدو أن مساعديك يشكلون استفزازاً لتقاليد الدولة، كما هو الحال مع أمثال ستيف بانون، عليك أن تطيح بهم أو تضعهم في حجم محدد. وهذا، على نحو ما، ما يستدعي قراءة أخرى للمسار المحتمل للعلاقات الأمريكية ـ الروسية، الذي يميل إلى الصدام أكثر منه إلى التوافق، وليس في سوريا وحسب. وكلما تصاعدت حدة الصدام، كلما اتضح للعالم محدودية مقدرات روسيا وقدرتها على الفعل.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث