دور الدين بين حوار روما ودموية السياسة | صحيفة السفير

دور الدين بين حوار روما ودموية السياسة

أربعاء, 19/04/2017 - 16:26

في الاسبوع الاول من هذا الشهر التقى وفد من علماء المسلمين البريطانيين مع بابا الفاتيكان، في خطوة تهدف للتحاور حول قضايا الامن والسلام والعلاقات بين اتباع الديانتين. انها خطوة ايجابية فرضتها حوادث العنف المتلاحقة التي شهدتها بلدان العالم التي احدثت شرخا في العلاقات بين سكان هذا الكوكب. وفيما تتصاعد ظاهرتا العنف والإسلاموفوبيا فمن الضرورة بمكان البحث عن ارضيات مشتركة بين التيارات الدينية والسياسية في هذا العالم لتجاوز هذه الحقبة التي يمكن اعتبارها من اصعب الفترات التي تعيشها الاجيال الحاضرة. 
اللقاء المذكور الذي شارك فيه علماء مسلمون من اتباع المذهبين الرئيسيين، يجب ان لا يكون الاخير في مجال البحث عن المشتركات وبناء ارضية من التعارف المؤدي للاحترام المتبادل. فغياب الحوار يؤدي للجهل التشكيك في النوايا والاستعداء، الامر الذي ساهم في ايصال الاوضاع الحالية إلى ما هي عليه. فالعقل الراجح يقول بان احدا لا يستطيع القضاء على الآخر، بل ان قدر البشر التعايش على سطح الارض واقتسام ثرواتها والاستمتاع المتساوي بما فيها من اسباب الحياة. 
يحتفي المسيحيون هذه الايام بمناسبة عيد الفصح، ووفقا للعقيدة المسيحية: فهو اليوم الذي بعث فيه المسيح عليه السلام بعد ثلاثة ايام من صلبه. ومنذ العام 325 بعد الميلاد بدأت الكنيسة المسيحية باحياء المناسبة. ويعتقد المسيحيون كذلك ان المناسبة تعني لهم الانتصار على الذنب، لأن المسيح ضحى بنفسه لانقاذ اتباعه من ذنوبهم. هذه عقيدتهم، وليس من العقل في شيء السعي لمنع المؤمنين بذلك من الالتزام بها او ممارسة الطقوس وفق ذلك الاعتقاد. فالتعايش السلمي بين البشر يقتضي امورا عديدة من بينها العقل الراجح وتحمل الآخر والاعتراف المتبادل والحفاظ على السلم الاجتماعي وعدم شيطنة الآخر ايا كان دينه او اعتقاده او موقفه السياسي إلا إذا كان يمثل مصدرا حقيقيا لتهديد الامن والسلم. فدين الله يدعو لاحترام الآخر والامتناع عن استهدافه بالعنف او الشتم او الازدراء، ومنع الإسلام اتباعه من استهداف الآخرين على اساس الاختلاف الديني: لكم دينكم ولي دين. كما منع حتى من التصدي للفظي للآخرين ومعتقداتهم. هذه القيم هي التي تؤسس للتعايش بين اتباع الاديان. ولكي يعيش المسلمون في امن يوفر لهم حرية العبادة، فانهم مطالبون بالسماح للآخر بالاستمتاع بحقوق مماثلة. ولذلك فحين اصدرت محكمة العمل الاوروبية قرارا بالسماح للشركات بمنع الحجاب إذا كان ذلك مخالفا لسياسة الزي المتبع لديها، انطلقت دعوات الاحتجاج ضد تلك السياسة، الامر الذي دفع رئيسة الوزراء البريطانية لاعلان موقف واضح ان بريطانيا لن تتدخل بمنع الزي الإسلامي.
ان غياب الروح الايجابية عن التفكير البشري كثيرا ما ادى للنزاعات المؤسسة على الدين والايديولوجيا.والا فكيف يفسر استهداف دور العبادة في بلدان عديدة؟ لماذا استهدفت الكنيستان المسيحيتان في القاهرة والاسكندرية؟ لماذا أزهقت عشرات الارواح من روادهما بدون ان يقترفوا جرما يعاقب القانون عليه؟ ذلك الاستهداف لا يمكن تبريره عقلا او دينا او منطقا، ولا يمكن وصفه إلا بانه عمل شيطاني يهدف لقتل الانسان واثارة المشاعر وتصعيد التوتر في منطقة هي الاكثر اضطرابا في العالم. كما ليس مستبعدا ان يكون ضمن مخطط لدفع مصر نحو التقسيم، على غرار ما حدث في السودان قبل بضعة اعوام. 
ان مشروع تقسيم بلدان المسلمين قائم على قدم وساق. فمنذ العدوان الانكلو ـ أمريكي على العراق بدأ مشروع التقسيم الفعلي، تارة وفق اسس الانتماء العراقي واخرى الانتماء المذهبي. واتخذت تلك الاساليب عناوين تستبطن خطط التقسيم: الفيدرالية، المحاصصة، الطائفية، حقوق الاقليات. وبدأ ذلك منذ ان فرضت أمريكا في التسعينات ما سمي «المناطق الآمنة». وثمة دعوات لتكرار تلك التجربة المريرة في سوريا، كمقدمة لتفتيتها. لماذا كل ذلك؟ الحكام الديكتاتوريون سيرحلون طال الزمن ام قصر، اما التقسيم فيصعب الغاؤه مستقبلا، فالدول تقسم ولا تتوحد. فهذه بريطانيا تنسحب طوعا من الاتحاد الاوروبي، بينما يدعو الرئيس الأمريكي لتفكيك الاتحاد الاوروبي.
الامر المؤكد ان مشاريع تقسيم الدول العربية الكبرى لا تتم بمعزل عن الخطط الاسرائيلية. بل ان قوات الاحتلال هي الاخرى تمارس سياسات الاستفزاز واستهداف الاماكن المقدسة. فبالاضافة للسماح للمستوطنين باقتحام المسجد الاقصى بوتيرة يومية تصر القوات الاسرائيلية على اعادة بناء الهيكل على انقاض المسجد الاقصى. وتؤكد الدراسات ان اعمال التنقيب التي تتم في محيط المسجد ستؤدي تدريجيا لانهيار اسسه، وبذلك يتحقق احد اهداف الاسرائيليين. 
يضاف إلى ذلك استمرار سياسة تهويد مدينة القدس لاضعاف الدعوات الفلسطينية لاعتبارها عاصمة لدولة فلسطين المرتقبة. وتساعد السياسات الأمريكية التي يروجها دونالد ترامب على ذلك التوجه خصوصا دعوته لنقل السفارة الأمريكية من تل ابيب إلى القدس. ومع انه خفف تصريحاته حول ذلك إلا ان من المتوقع ان يكررها مستقبلا ما لم تحدث معارضة حقيقية من حكام العرب والمسلمين. فليس من الخير في شيء استهداف مقدسات المسلمين، بل هو مخطط شيطاني لاثارة الفتنة. ومن الضرورة استحضار الحادثة التاريخية الشهيرة حول أهمية التعايش السلمي بين اتباع الديانات السماوية بشكل خاص. فعندما توجه الخليفة عمر بن الخطاب إلى القدس بعد فتحها رفض الصلاة في كنيسة القيامة، لان صلاته قد تفتح الباب مستقبلا لمصادرة الكنيسة من المسيحيين بحجة ان خليفة المسلمين صلى فيها، وبذلك تبدأ دورة العنف تحت غطاء الدولة الإسلامية.
ولا يمكن فهم استهداف دور العبادة إلا ضمن محاولات الفتنة داخل المجتمع الواحد. ان قتل المصلين في الكنيسة جريمة لا يمكن تبريرها بمنطق ديني او بشري. وقتل الابرياء، ايا كان دينهم او موقفهم السياسي، مخالف للشرع والعقل وفتنة في الارض وفساد كبير. ما الهدف السياسي الذي يتحقق من اثارة الذعر والرعب بين المصلين؟ قبل ثلاثة اعوام قامت مجموعة بوكو حرام بخطف 275 فتاة في نيجيريا، ولم يعرف عن مصيرهن شيء حتى الآن. لماذا هذا العمل الشائن؟ والى متى تظل هذه الفتيات مغيبات عن عائلاتهن ومحرومات من الحياة الطبيعية؟
هذه الحوادث تؤكد مسألة جوهرية حول دور الدين في الحياة العامة. وعبر التاريخ اثيرت مسألة «إقحام الدين في السياسة» وكثرت المطالبات بمنع ذلك. فهل هذا امر ممكن. الواضح ان الدين لاعب اساس في السياسات الدولية، ماضيا وحاضرا، وبدلا من الدعوة لابعاد الدين عن الحياة العامة، فمن الافضل ترشيد ذلك الدور وتوجييه وفق مبادئ الدين نفسه، وهي مبادئ يتم تجاهلها في اغلب الاحيان، فيبدو الدين وكأنه مصدر المشاكل وسبب التوترات والاضطرابات. فليست المشكلة هنا: بل في استخدام الدين سلاحا في الصراعات السياسية. فأغلب ما يحدث باسم الدين بعيد عن روحه وتوجيهاته. فرسالات السماء عامة تدعو لاقامة العدل والتصدي للظلم والايمان المؤسس على الحب والاحترام ووضع الامور في نصابها واشاعة الخير ومنع الاستغلال. معارضو الدين يعترضون على هذا النقاش ويعتبرونه «مثاليا»، ولذلك يجدر برموز الاديان اعادة توجيه حواراتهم لتؤدي إلى المزيد من القبول المتبادل واحترام حقوق البشر وصون الحياة الإنسانية. مطلوب ثقافة دينية ذات طابع انساني يروج للسلم بدلا من الحرب والحب وليس الكراهية. وهذا جوهر ما قاله البابا للوفد المذكور: «انها فرصة تاريخية ان يلتقي (ممثلو) الديانتين الكبريين في العالم، المسيحية والإسلام، في تلاحم من اجل السلام».

 

د. سعيد الشهابي٭ كاتب بحريني