وسط حضور أدبي وثقافي كبير، وبحضور مدير بيت الشعر – نواكشوط الأستاذ الدكتور عبد الله السيد؛ أحيا الشاعران محمد سعد بوه محمد المامي ومحمد محمود ولد عبدي أمسية شعرية متميزة بمقر البيت مساء أمس الخميس، حيث قدم الشاعران تجربتين شعريتين تتمايزان بشكل لافت فنا ولغة وأخيلة وترميزا وإحالات، وتتحدان في المضمون، حيث هيمنت عليهما قضايا الوطن، والهموم الذاتية.
استهل تلاوات الأصيل الشعري الشاعر محمد سعد بوه محمد المامي، الذي يمثل جيل الثمانينيات الذي شهد انطلاقته الشعرية بقوة شاعرا وإماما في اللغة وشواردها، وعرض تجربته الشعرية من خلال ثلاث قصائد تتسم بالجزالة في اللغة ونضج التجربة، فقرأ قصيدته "عيد الاستقلال"، التي يقول مطلعها:
أطل عيدك فانس الهم والتعبا
واملأ بأفراحه أوقاته طربا
عيد تمر بنا ذكراه زاهية
كما يَمرُّ معينٌ طيبٌ سُكبا
عيد يذكرنا عصرا يعلمنا
شجاعة النفس والإقدامَ والغضبا
أيام جاء العدى يغزوننا طمعا
في نهب خيراتنا جهلا بنا وغبا
وطمس تاريخ شعب ناضر عبق
ومجد عز أثيل عانق الشهبا
وربما يُحسبُ الغسلينُ من بله
حلوا.. ويستسهل الأمر الذي صعبا.
ثم قرأ قصيدته "فلسطين" التي يبدأها بشعر الحكمة، قائلا:
العقل أسمى منال المرء من رتب وخير مدخر في سائر الحقب
وقد أراني زماني من عجائبه بعض العجائب لم تؤخذْ على ريب.
إلى أن يتساءل عن جريرة الشر، وكيف تعصف بعقل الإنسان، فيقول:
أنحن في عالم الإنسان تجمعنا
حياتنا بحكيم العقل والنسب
أم أنه حيوان في حظيرته
ضعافه عرضت للموت والعطب!
ففي فلسطين شعب مزقت علنا
أوصاله فهو كالملقى من العلب
وأبحر الدمع تجري فوق ساحته
والناظرون وقود النار كالحصَب.
ولد محمد المامي في قصيدته الثالثة استخدم الغزل قناعا في قصيدته "الحوراء" التي يقول فيها:
لم أصب للحوراء ذات عيون
تسبي الفؤاد بسحرها وجنون
أو للمثيرة بالأنامل من هوى
قد خضبتها كي لذاك تريني.
بعد ذلك استمع الحضور إلى الشاعر محمد محمود ولد عبدي، الذي قرأ سبع قصائد من ديوانه، تسلط الضوء على بعض قصائده التي تمتاح من معين المجاز والإحالات والرموز، وتروم سبر أغوار "الذات".. الخاصة والعامة، وذلك في أفق ما تمتلكه قصائده من أدوات انزياح وتحديث.
يقول ولد عبدي في قصيدته "قلقُ البياضِ":
يَا سَيديِ !
في داخليِ نصٌ ، رآك كَعَالمٍ
يَشْتمُ رائحةَ الْخلودِ
لِينتَشِرْ . . .
رسمَ الخريطةَ في الجُسومِ
براءةً . . .
وخطاَ على التاريخ يكتب أحْرفاً
حتى ينام الماء ...
كيما ينكسرْ
... ... ...
ونبوءةُ العينين :
ظلٌ تَائـــــه ؛ إذْ لاَ مَكَانَ لِخَطْوهِ ...
إلا جنوبَ شَواطِئ تَنْفيِ وُجُودَ
الْعَقْلِ ...
ذَاتَ حُضورهِ ...
وعَلى الْجِهَاتِ الستِّ
تَلحِظُ وِجْهةً ً
نادتْ دِماءَ الْوردِ ، صَارَتْ أدْمُعـَــاً
للازوردِ ، رَصَاصَةٌ للِّسلم ِ !؛
تَلبَسُ جُبة ً . . .
( ... )
جلستْ على رملٍ تُحدقُ سَاعة ً
في الطفلِ
ترحلُ ساعة ً
في الطفلِ
تبدوُ ؟
في مرايَا الآن تحمِلُ
أوجُهَاً ....
الآن أذكروا :
"اسْحَبوا ساعتكمْ
من وقتناَ "
يا سيديِ !
أشتمُ رائحةَ الفُصُولِ
حزينة ً ...
ينتابُهَا قلقُ الْبياض ِ
محَاصَراً برؤى الُّدخان ِ
لأخْتفـــي ِ".
إلى أن يقول:
"هل كان حلما سيدي
أنَّي أحرقتُ فراشة
ومتى ظهرتُ !؟
لأختفي !".
كما قرأ قصيدته "في معبدِ الِّظلِ"، التي قول فيها:
مَا عدتُ أعرفُ أصواتاً لهاَ تَـــرَفُ ...
أني بدأتُ بناءَ الــــــذاتِ أعتـــــــرِفُ
اسأل صداي فقد تاهـــــت نضارتهُ ...
كم أرغم الرمل فانسابت له الصحُــفُ
إلى أن يقول:
أي الجهاتِ أنــــا؟ بالحاء ممــــتهـنٌ...
ميمي على الشط من إطفائها تصـفُ
مضارعٌ ولِسانُ الشعبِ طوعـــــني...
حتى نهكتُ فظلَ الحــــــرفُ ينْحرفُ
مات السفينُ على الجودي بعثـــــرهُ...
ماءُ الغـــيابِ فهل ينجو لنا الشـــــرفُ
حملتُ داود ردحا بيــن أوردتــــي...
حتى أكونَ أنــــا إن مسَّنيِ الخَـــــزفُ
غداً نغني على الأوتـــار يعزفهـــــَا...
كــــفُ التَّوحــدِ نبقى الدهـــــر نأتلف
تجيئ للحـــفلِ آثــــــــــارٌ فتوقـــده...
حــــــلماً توضــــأ في زريــــابه يقـــفُ.
وقرأ قصيدته "منفى الشواطئ"، التي يقول فيها:
قبسٌ هناكَ ودمعـــــــــةٌ ... وشواطئ تتَــــــــغَرَبُ
فالُّصوتُ يخشى صوته
أنَّى يَجـــولُ ويَـــهربُ
وقفَ المَدى في دهشــةٍ
قُرْبَ الحـــقيقةِ يَطْرَبُ
بالرمل يَمْزجُ ظــــــــلهُ
وسهامهُ تتســــــــــربُ
إلى أن يقول:
فمن الحكاية نرتـــــــوي
ومن الملاحم نذنب
ومن البداية ننتـــــــهــــي
وعلى النهاية نصلب
لا فرقَ بينَ الفَــــــــرْق لاَ
فالفوقُ تَحتٌ يُكْتَــــــب
والقُربُ بعدٌ بيننـــــــــــا
والْبُعْدُ قربٌ يَكــــــــذِبُ.
ولد عبدي ختم قراءته الشعرية بقصيدة "عصا الورد" التي يقول فيها:
أمشي على البوح خوف التيه والعوج
فتورق الروح كي ترقى إلى المُهجِ
" يا صبر أيوب" هل تنمو مطامحنا؟
إن يرقد الماء فوق الوعي بالهرجِ
الشاعران محمد سعد بوه محمد المامي، ومحمد محمود ولد عبدي؛ قدما بالغ تحياتهما لإمارة الشارقة التي فتحت فضاء للشاعر من خلال بيوت الشعر في الوطن العربي؛ تنويرا للعقل الإبداعي العربي، كما ثمنا ما تقوم به إدارة بيت الشعر - نواكشوط في سبيل خدمة الشعر واللغة والثقافة.