لماذا يبيعوننا في ليبيا؟!! | صحيفة السفير

لماذا يبيعوننا في ليبيا؟!!

خميس, 30/11/2017 - 17:50
عبد الرزاق كابا

قبل عقد من الآن التحق بنا شاب يمني في المعهد الانجليزي بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كنا جميعا جددا في المستوى الثالث، فبينما كان الجميع في الأسبوع الأول متلهفين للغة شغوفين بتعلم المفردات، والتعرف على الأصدقاء الجدد، كان الأخ اليمني _الذي أصبح صديقا مقربا الآن- مندهشا بتقاسم الفصل مع ذوي البشرة السوداء، ويروي لي صديقي اليمني، أنه وفي غضون أسبوع كامل كان مصدوما مني ومن أخي الغيني الآخر، وكانت التساؤلات لا تغادر مهجته المتحيّرة، كيف أتقاسم الفصل مع هؤلاء العبيد، أليس أمثالهم الذين نعايشهم في مدننا وقرانا اليمنية كالهديدة وتعز وأتاريش فنستخدمهم في البناء والضرب على الدفوف في زفافنا، ونستعملهم في مزارعنا بدون أجور وإنما بالجود عليهم بلقيمات تسدّ رمقهم وتقيم صلبهم؟ كيف راقت لماليزيا ولهذه الجامعة أن تجعلنا في فصل واحد مع هؤلاء العبيد الأحباش؟ يتساءل زميلي!!!

ولقد حاورت مرة سائقا هنديا في التاكسي، وسألته عن السود الموجودون في الهند، فصرح لي وفجّره في وجهي (هؤلاء السّود أصابتهم لعنة أحد أجدادهم فاستحال بياضهم سوادا) ويبدو أنه يشير إلى القصة المكذوبة المتداولة عن ابن نوح المسمى ب (حام) وأن نوحا عليه السلام لعن ذريته ابتداء من ابنه كنعان وأن يصيروا عبيدا مدى الحياة!!
صديقتي الماليزية المحامية صرحت لي بأن أصدقاءها السّود النيجيرين في مرحلة الماجستير كانوا أذكى الطلاب في الفصل، ثم صرحت لي بالحرف الواحد (أنتم السود رائعون أذكياء، إلا أن مشكلتكم هي السواد) وهي تقصد أن مشكلتنا مع المجتمعات هي سواد لوننا!! وقد صدقت فعلا!!

دعوني أكون صريحا معكم: الأغلبية الساحقة في العالم لا يحبون الإنسان الأسود، إنهم يحبون سواد العين، وسواد كساء الكعبة الشريفة، والحبة السوداء، والأحذية السوداء، إنهم يشترون البذلات السوداء بأعلى الأثمان، والسيارات السوداء الفارهة بأغلى الأسعار، إنهم يطفئون مصابحيهم وأنوارهم ليوؤوا إلى فرشهم وينعموا بسبات عميق تحت ظلام أسود دامس، إنهم يعشقون عيونهم السوداء، وأشعارهم السوداء وينزعجون عندما تشتعل رؤوسهم شيبا ولحاهم بياضا، لكنهم يتضجرون عند رؤية الجلد الأسود على الإنسان الأسود؟؟؟

إن ما يحدث في ليبيا اليوم ليس استثناء، فهي من ضمن الموروثات الثقافية التي وجدت قبل الإسلام وبعده، فالتاريخ العربي لم يعرف الأسود إلا عبدا رقيقا، ولذلك فإن هذه العقلية ظلت عالقة في أذهانهم حتى بعد مئات السنين، فهذه العقلية لم تمسحها الآيات القرآنية الداعية للمساواة، ولم تقض عليها الأحاديث التي تردد يوما بعد يوم (لا فضل لعربي على أعجمي...إلا بالتقوى) هي ثقافة متجذرة في أعماق بعض إخواننا العرب وهي متأصلة في عروقهم ودمائهم.

الرموز السود في التاريخ العربي كلهم منحدورن من العبيد، عنتر بن شداد الجاهلي، بلال بن رباح الصحابي، عطاء بن أبي رباح التابعي. نعم إن العربي لم يعرف الأسود إلا عبدا، ولذلك فإن العقلية بقيت عالقة في ذهنه لا يسع بعضهم الانفكاك عنها.
في كتب التاريخ الإسلامي والعربي يندر أن ترى كلمة (أسود، وسوداء) إلا وتأتي مقارنة بالعبد، وربما عبروا أحيانا ب (بغلام أسود) وفي بعض الأحاديث نجد أحكاما وعبارات محيّرة لا نعرف لها تفاسير وتعليلات حاسمة ((الكلب الأسود شيطان)) صحيح مسلم ((وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) البخاري، وحتى الحجر الأسود لم يكن أسودا من حيث الأصل، ففي الحديث ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم)) الترمذي وقال حديث حسن صحيح. إن القارئ العربي يمر على هذه الأحاديث ولا يعيرها اهتماما، ولا يحرك شعرة في رأسه، ماذا كان الأمر لو ورد (الكلب الأبيض شيطان) (وإن تأمر عليكم عبد فارسي أو صيني أو أمريكي كأن رأسه زبيبة) ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ((فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرا، وكذلك بصورة القط الأسود لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة)) مجموع الفتاوى ج19، ص52.

وهكذا تشكلت شخصية الأسود في الذهنية العربية عبر القرون، واتخذ بعض ملوك العرب في الدولة العباسية والأموية الجهاد طريقا لاستعباد العباد، وصار الاسترقاق باسم الجهاد تجارة رائجة في الدولة الأموية والعباسية، وصار الملوك والأمراء شغوفون بإرسال الجنود للثغور ليس من أجل إعلاء كلمة الله، لكن لجلب الإماء والعبيد، فصار بعضهم يملك ما يتراوح بين خمسين إلى ألف عبد، وكان من النادر جدا في هذه الدول استرقاق العربي وإنما كان يسترق الأسود والصيني والتركستانيين (راجع موقع الدكتور راغب السرحان)

لقد قامت ثورة الزنج في الدولة العباسية فتم القضاء عليها، وقتل الآلاف منهم، وأرجعوا إلى الواقع الذي لم يكن لإخواننا العرب أن يرضوا بغيره للإنسان الأسود، وهو البقاء الدائم خلف الركب وتحت سقف العبودية.
ومنذ فجر ذلك التاريخ إلى اليوم ما زال كثير من اخواننا العرب غير قادرين على الانفكاك عن الموروث الثقافي التاريخي عن الأسود. 
نعم إن كثيرا منهم غير قادرين على الانفكاك عنها، وتعرف حقيقة هذا عند حدوث مشاجرة بين عربي وأسود، فالأخ العربي سينسى جميع الآيات والأحاديث عن المساواة، ويبدأ يطلق على الأسود (يا عبد يا حمير) من هنا تثبت دعواي أن الموضوع متجذر في الأعماق ويصعب الانفكاك عنه، وقد حدث مثل هذا من الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه، عندما اختلف مع بلال فقال له (يا ابن الأسود) فقال له نبي الإسلام بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم) ((أتعيّره بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية)) نعم هذه الجاهلية التي أصابت سيدنا أبو ذر رحمه الله كانت من الموروثات الثقافية المنحدرة من عصر الجاهلية، ولم تمت إلى عصرنا هذا، وهي نفس الجاهلية التي أصابت رئيس الوفد المصري في مؤتمر الجمعية العامة لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة في كينيا التي انعقدت العام الماضي ٢٠١٦ عندما وصف الأفارقة ب (الكلاب والعبيد) وذلك اثر خلاف مع الدول الأخرى حول إرسال فريق دراسة بيئية إلى غزة. فأخلاق الرجل الحقيقية تظهر عند الإختلاف، أما ما يظهره الشخص من مروءة واحترام عند الوفاق فليس أكثر من مجاملات رخيصة.

إن ما يحدث في ليبيا جريمة على الإنسان والإنسانية، وجريمة على العقل، وجريمة على الشرف، وخطورتها تكمن بأنها أثبتت أن بعض اخواننا العرب يمكنهم الرجوع إلى سيرتهم الأولى وإلى عقلية الأسواق النخاسية التاريخية كلما سنحت لهم الفرصة ووجدوا ملاذا إليها، فليبيا اليوم تحكم بعض مناطقها ميليشيات وتعيش في شريعة الغاب، وفي غضون غياب حكومة وطنية أقدم هؤلاء القوم على بيع المهاجرين الأفارقة الذين يحاولون العبور إلى أوروبا، واتخذوهم سلعة في المزاد العلني، يباع الواحد منهم ب 300 إلى 500 دولار، وقد يبيعون بعضهم للمافيات والمنظمات الإجرامية المتاجرة بالأعضاء البشرية.
إن هذا العمل الشنيع هو ثانيا بسبب غياب الأمن والنظام في ليبيا، لكنها ناتجة أولا بوجود إيمان وثقافة راسخة في عقول أولئك الميليشيات العربية الليبية بأن الأسود يستحق البيع والنخاسة، فهم -بكل بساطة - يمارسون في ظل غياب النظام والدولة ما كانوا يؤمنون به حالة وجودهما، والفارق الوحيد أنهم كانوا عاجزين عن تطبيقه. 
ودعوني أكون واضحا: حاشا وكلا أن أدعي أن جميع الإخوة العرب عنصريون، وحاشا وكلا أن أدعي أن الليببين جميعا على قدم مساواة مع هؤلاء المجرمين، كلا، فأحد أفضل أصدقائي الذين تعايشت معهم في ماليزيا وأحبني حبا صادقا لا نفاق فيه كان ليبيا شريفا متواضعا، لا يعرف التمييز والعنصرية، واليمني الذي تحدثت عنه في بداية المقالة صار أحد زملائي الذين يجمعني بهم حب وتقدير كبير، بل أصبح كثير من أصدقائه في ماليزيا أفارقة سودا.

وعليه أقول: بأن هذا الكلام ليس موجها ضد العنصر العربي قاطبة، وليس موجها لملايين العرب الذين استطاعوا بفضل المخالطة والسفر والثقافة والعلم والايدلوجيا التخلص من كثير من الموروثات الثقافية العنصرية، بل هي قراءة تاريخية في الموروث الثقافي العربي، قراءة في فهم السيكلوجية التي ما زالت تحكم كثير من الأدمغة العنصرية التي لا تظهر إلا عند الاختلاف، وهي دعوة إلى ايقاظ العقول ومراجعة الثقافات، دعوة إلى الإقدام على الإصلاحات المجتمعية التي يعامل فيها الأسود وكأنه عبد، دعوة إلى إصلاحات في تلك الديار اليمنية والموريتانية والخليجية وغيرها.

فقد يتساءل بعض الإخوة العرب والأفارقة وماذا عن الغرب وعنصريتهم: فأقول بأن الغرب قد قام بإصلاحات قانونية كثيرة فيما يتعلق بالعنصرية والاستعمار والاستعباد، وإن كان ما زال مستعمِرا بإيدلوجياته الرأسمالية وعبر شركاته العابرة للقارات وبنوكه الإقراضية وإشعال الحروب في الدول النامية، لكننا لا نتصور أن يحدث في احدى الدول الغربية ما يحدث الآن في ليبيا ومن بعض اخواننا العرب (بيع الإنسان الأسود في مزاد علني)

إن العنصرية والتمييز ما زال موجودا حتى بين الأفارقة السود أنفسهم، والتقاتل القبلي على النفوذ السياسي والاجتماعي والاقتصادي مشتعلا أوارها في كثير من الدول الأفريقية، لكن ما حدث في ليبيا يعيد إلى ذاكرة الإنسان الأسود الأفريقي أيام الاستعباد وأسواق النخاسة الأفريقية والأوروبية والعربية، فلنعمل جيمعا عربا وأفارقة وبيضا على أن لا يتكرر ذلك التاريخ المشؤوم لأنه عار على جبين الإنسانيةّ جمعاء.

#لا_لبيع_الأفارقة_في_ليبيا