في الأفق العربي ما يؤشر إلى جملة من التطورات التي يفترض أن تبدل وتغير في صورة الوضع الراهن، حيث تغرق المنطقة في دماء ابنائها، من أقصى جنوبها في اليمن، بمحاذاة افريقيا، إلى شمالها المطل عبر المتوسط على اوروبا، بعنوان ليبيا، مع ارتجاجات تنذر بالخطر في تونس التي تصعب عليها العودة إلى عصر الحبيب بورقيبة، ويصعب عليها بالمقابل أن تغادره تماماً إلى صيغة تنتمي إلى المستقبل ولا تحمل في ثناياها موروثات الماضي… هذا من دون أن ننسى الجزائر وما ينتظرها بعد رئيسها الذي يرفض مغادرة القصر والحكم، مصراً على البقاء كما ولو من فوق كرسي متحرك..
وتبقى التطورات الاهم وذات التأثير المباشر على صورة المستقبل العربي تلك التي تتصل باحتمالات النهاية القريبة للحرب في سوريا وعليها بعد سنوات الدم والخراب والتدمير التي كادت تذهب “بالقلب النابض للامة العربية جميعاً”، كما كانت تسمى سوريا بعاصمتها دمشق وشهبائها حلب في “الزمن الجميل”.
ذلك أن هذه الحرب قد استطالت اكثر من سبع سنوات مستدعية العديد من الدول إلى التدخل فيها، سواء بالمشاركة العملية (بقوات من “المتطوعين” الممولين من الخارج) او بتغذية وتمويل وعسكرة اشتات المعارضات السياسية المختلفة للنظام..
وعبر هذه السنوات الطويلة طرأت تغييرات خطيرة على جغرافيا المشرق، نتيجة الاحتلال الاميركي للعراق ( 2003) وما أحدثته من خلل تدمير لنظام صدام حسين وتشجيع الغرائز الطائفية المحتقنة على التفجر وتشويه صورة النظام الجديد عبر محاولة اقامة نظام طوائفي جديد يسرع في تفجير حرب اهلية جديدة، تقسم العرب عربين (سنة وشيعة) وتشجع الاقليات ولا سيما اكبرها أي الاكراد على المطالبة بالانفصال تماماً والخروج على الصيغة الاتحادية التي اعطت للأكراد في شمالي العراق نوعاً من الحكم الذاتي الواسع، ضمن اطار الدولة المركزية في العراق.
الحلقة المركزية في احتمالات التغيير المقبل تتخذ من سوريا العنوان، وإن تعذر استمرار التطورات الخطيرة والمشينة بوحشيتها غير المسبوقة والتي دمرت بلاد الحضارة الاولى في الوطن العربي، اليمن، واغرقتها في دماء اطفالها ونسائها ورجالها.
ذلك أن الحرب في سوريا وعليها، كانت ـ وبغض النظر عن شعاراتها المطالبة بإسقاط النظام ـ اسوأ ما مرت به الأمة العربية من نكسات وتراجعات.
فهي قد كانت، في جانب منها، الوجه الثاني لحرب “داعش” على العراق.. وهكذا فقد الوطن العربي “القلب” منه، بعدما أغرقته دماء ابنائه، واختلط الصح بالغلط بحيث صار صعباً الفصل بينهما..
ثم أن هذه الحرب كانت في جانب منها بل لعله عنوانها الاساسي، كما في العراق، حربا على الهوية العربية للبلاد، عن طريق التركيز على شخصنة النظام وتطئيفه وكأنه يعني سوريا جميعاً فينزع عنها هويتها العربية ودورها الذي لا يمكن الاستغناء عنه في أي تصور للغد الافضل في الوطن العربي عموماً..
حتى إذا جاءت الحرب في اليمن وعليها تبدى جلياً وكأن “العروبة” ذاتها هي المستهدفة تمهيداً لإعادة العرب قبائل وطوائف وشيعاً وأعراقاً مقتتلة، تارة باسم المذهب، وتارة بداعي تكبير الصغير وتصغير الكبير، وغالباً بسبب النزعة التوسعية لدى الاثرياء بالذهب الاسود او الابيض من حكام بلاد الاطراف في الوطن العربي او جزره الصغيرة.
ومن الصعب تقدير اكلاف هذه الحرب الظالمة على أفقر دولة عربية (اليمن) ولكن من المؤكد انها بمليارات المليارات من الدولارات… هذا إذا ما تجاوز ضحاياها من البشر، رجالاً ونساء واطفالاً فتك بالآلاف منهم مرض الكوليرا، اضافة إلى قذائف المدفعية وصواريخ الطيران الحربي ورصاص المرتزقة، فضلاً عن القوات النظامية وطائراتها.
وإذا كانت بعض المرجعيات المختصة بتقدير اكلاف الحرب على سوريا، مع تحديد من دفع، قد حدد الرقم بـ 173 مليار دولار، فمن المؤكد أن الحرب المفتوحة على اليمن قد فقات تكلفتها، حتى اليوم، مثل هذا الرقم المتواضع في سوريا.
ومن نافلة القول انه لو انفقت مثل هذه المبالغ ـ وبدافع الاخوة وحماية الذات بهم ـ على اعادة اعمار سوريا واليمن ومعهما العراق، لكانت طريق المستقبل العربي الافضل قد انفتحت على مداها، وبدافع الاخوة وحماية المصير المشترك.
إن التضامن العربي، المعبر عن الايمان بوحدة هذه الامة ومصيرها المشترك الذي لا يحميه الا الموقف الموحد من اعدائها، سواء تمثلوا بالعدو القومي (اسرائيل) او بالمتآمرين على مستقبلها الذي لا يمكن أن يكون أفضل الا بالوحدة او الاتحاد لمواجهة الاعداء المشتركين وتأمين الغد الافضل لعموم العرب في مختلف اقطارهم، مشرقاً ومغرباً.
*****
هل من الضروري التذكير بالخطر الاسرائيلي الذي يتعاظم ويهدد مستقبل الامة العربية جمعاء، خصوصاً وانه يحظى بالدعم الاميركي الذي لم يتورع عن اعلانه الرئيس الاميركي دونالد ترامب، والمتمثل في اعلان اسرائيل الدولة القومية ليهود العالم جميعاً، والذي استبقته واشنطن بقرارها الهمايوني اعتبار القدس العاصمة الابدية لإسرائيل، ونقل سفارتها من حيفا اليها، لتأكيد ضلوعها في المؤامرة الجديدة..
والمؤامرة الجديدة تفرض على عرب فلسطين المحتلة الرحيل من ديارهم التي كانت ديارهم، وكذلك تفرض على ما أعطي من ارض فلسطين للسلطة التي لا سلطة لها، أن يقبلوا بقيام هذه الدولة العنصرية على ارضهم بكاملها والرحيل عنها، إلى حيث يمكنهم الرحيل.. فالأرض العربية واسعة، بل شاسعة، وهي تستطيع أن “تستوعبهم” بين رعاياها..
*****
في هذا الوقت يجري النفخ في “الخطر الايراني” على العروبة بعنوان سوريا التي تقاتل من اجل وحدتها منذ سبع سنوات طوال، والعراق الذي ما تزال تتهدده الفتنة بالتمزق، في حين يعيش الاردن خطر الاندثار في ظل “دولة يهود العالم” على ارض فلسطين… ويعيش لبنان حالة من القلق على مصيره، خصوصاً وان ثمة بين العرب من يعمل على اذكاء نار الفتنة والانقسام فيه. والمثال الحي هذا التطويل في عملية تشكيل الحكومة الجديدة، التي تحولت إلى ازمة مفتوحة من دون أي مبرر داخلي، وربما في انتظار تطورات خطيرة في المنطقة قد تعدل في الخرائط، او تؤثر على توازنات القوى السياسية فيها لمصلحة المشاريع المضمرة لهذه المنطقة بأقطارها المختلفة.
على أن روسيا بوتين تمضي جادة في مساعدة النظام لإنهاء الحرب في سوريا وعليها… وبين الخطوات الجدية القمة الثلاثية التي ستجمع قادة روسيا وإيران وتركيا خلال اسبوعين عشية المؤتمر المزمع عقده برعاية الامم المتحدة لأطياف المعارضة السورية مع النظام، في ضوء التطورات الحاسمة “على الارض” التي بدلت في خريطة الصراع، وحصرت فصائل المعارضة السورية المسلحة في المشال السوري بعنوان ادلب.
*****
هل من الضروري اضافة شيء من التحفظ على هذه القراءة لخريطة التحولات المتوقعة في المشرق العربي اساساً، مع ترك ليبيا لمصيرها، في هذه اللحظة السياسية التي لما تكتمل تفاصيلها وما يمكن في الطريق اليها من مخاطر واحتمالات مفتوحة على المجهول؟
من باب التحفظ علينا الاستدراك بالقول:
إذا ما استمر القرار المتصل بالمستقبل العربي في أيدي “الآخرين”، وتحديداً في ايدي امثال ترامب والعدو الاسرائيلي، فان المستقبل مهدد بمخاطر عديدة اعظمها واشدها اضراراً بهذه الامة وغدها الافضل، غياب وحدتها او توحدها او تضامنها ـ بالحد الادنى ـ في مواجهة ما يتهددها من مخاطر جسيمة تهددها بالاندثار عبر التمزق دولاً شتى، حسب ثرواتها التي ليست لها، وعبر غفلتها عن مصيرها الواحد، بغض النظر عن طبيعة الانظمة القائمة، وهل هي ملكية او جمهورية او سلطنة او اميرية وخلافه.