في حروب عصر ما قبل التكنلوجيا والإنترنيت, كان يسهل تحديد من هو المنتصر في النزاعات, فالنتائج واضحة ولا تحتاج لتوضيح, والمهزوم يقبل بشروط المنتصر.. اليوم ومع كل هذا التداخل في النتائج, لم يعد تحديد المنتصر بهذه السهولة مطلقا.
عندما بدأت "الحرب السورية" عام 2011, لم تكن حربا داخلية بالمعنى أو الصورة التي وصلتها لاحقا.. فقد بدأت بتظاهرات صغيرة وخجولة هنا أو هناك, وفي مدن بعيدة عن العاصمة, عرفت بوجود معروف للتيار السلفي فيها, لكن تلك التظاهرات صبغت بصورة مدنية تطالب بالحرية والديمقراطية لاحقا.. ساعد على كسبها التأييد, ما نقل عن قسوة النظام وتعسفه في الحكم, وسوء الحالة المعيشية للناس.
تطورت تلك الحرب بعد مرور عام أو أكثر, لتصبح حربا داخلية أهلية واضحة, كان اللاعب الأبرز فيها إقليميا.. وبرزت فصائل وأجنحة متعددة, من أقصى اليمين المتطرف, لأقصى اليسار المتفق مع الغرب وتوجهاته, وكادت الفصائل المسلحة أن تطيح بالنظام, بعد أن إستولت على مدن سورية كبرى, وأصبحت على مرمى حجر من دمشق عاصمة البلاد.
كان للتدخل الإيراني ودعم بعض الفصائل الشيعية, خصوصا بعد تهديد فصائل سلفية مدعومة من دول خليجية, بتهديم قبر السيدة زينب بنت علي, عليهما وألهما السلام, إبنة رابع الخلفاء الراشدين, وأبو الأئمة الإثنا عشر عند الشيعة, وهو واحد من أهم المراقد المقدسة لدى الشيعة, دورا في إعطاء الصراع بعدا طائفيا.. لكن هذا التدخل, كان لحظة فاصلة في إيقاف إنهيار النظام السوري.
كبرت اللعبة بعد ذلك, حينما تدخلت روسيا وبشكل مباشر, في قبالة تدخل معتاد أمريكيا وغير مباشر, عن طريق وكلاء وعملاء, فكادت أن تصبح حربا عالمية بالوكالة.. لكن تدخل روسيا, كان لإثبات الوجود, وإستعادة المكانة والنفوذ عالميا, وإستعراض عضلات رهيب.. تصاغرت معه كل قوى الدعم الإقليمية والتمويل والتسليح الجانبي, حتى الأمريكي منها.
نجح الدعم الروسي, في منح نظام الحكم في سوريا اليد العليا في الصراع بشكل واضح, فأستعاد النظام المدن الكبرى, وصارت له الأفضلية في أي مفاوضات تعقد, وساعده على ذلك, ما حصل بين قطر ودول الخليج, وتراجع الدور السعودي لإنشغالها بقضايا داخلية, تخص ولاية العهد وطريقة إدارة محمد بن سلمان للحكم.. فصار النظام يفرض شروطه, وتكاد قوى المعارضة تبحث عن سبيل لنيل ما يمكن من مكاسب من النظام, تضمن لها سلامتها فحسب.. وها هم العرب اليوم, يعودون خجولين لدمشق لفتح سفاراتهم, ويتحدثون عن دعوة سوريا للعودة للجامعة العربية!
رغم بقاء جيوب صغيرة لفصائل, بمسميات مختلفة لكنها بهوية سلفية داعشية أو تابعة لتنظيم القاعدة بالعقيدة والأفعال.. لكن النظام أحكم قبضته, وسيتنفس الصعداء ربما قريبا, لكن ثمن ذلك عليه سيكون باهضا, فعقوبات متراكمة على النظام وشخوصه, وتحكم بالقرار السوري وتواجد روسي طويل الأمد, وفاتورة طويلة لتكلفة الحرب.
هل هذا سيجعل النظام منتصرا في الصراع؟! وهل خصومه من دول الخليج ومن خلفهم خسروا الرهان؟!
ليس واضحا من المنتصر هنا, فثمن إستعادة النظام لقوته لا يوازي النتيجة المتحققة.. وخصومه لم يخرجوا خالي الوفاض من اللعبة تماما, فقد حققوا أهدافا مرحلية في الأقل, تهمهم كلاعبين يرغبون بالجلوس على طاولة الكبار, وأن رأيهم بات مسموعا في مصير المنطقة, وهو إنجاز لا يستهان به.
رغم صعوبة تحديد المنتصر.. لكن تحديد الشعب السوري كخاسر أكبر في هذا الصراع, قضية لا تحتاج لنقاش طويل أو تفكير معمق.